الخميس - 18 نيسان 2024

إعلان

"صيف العدوّ" لشهلا العجيلي تجعل العلاقة ربيعاً بين الأنا والآخر

سلمان زين الدين
"صيف العدوّ" لشهلا العجيلي تجعل العلاقة ربيعاً بين الأنا والآخر
"صيف العدوّ" لشهلا العجيلي تجعل العلاقة ربيعاً بين الأنا والآخر
A+ A-

بين قول الراوية في وسط الرواية: "أريد لهذا الصيف، على غير العادة، أن ينتهي سريعًا، ولعلّ أسوأ ما قد يحدث لشخص هو أن يقضي الصيف مع عدوّه!" (ص 142)، وقولها في نهايتها: "أمسكت بعقد اللؤلؤ الذي في رقبتي أتوكّأ عليه، ومضيت نحو عدوي القديم بساقي أمي المقطوعتين" (ص 333)، تمتد حوادث رواية "صيف العدو" للروائية السورية شهلا العجيلي (منشورات ضفاف، مجاز، الاختلاف). من هذا المستهل الذي يعكس علاقة ملتبسة بين الأنا والآخر أدخل إلى الرواية.

على أن طرفي هذه العلاقة هما لميس، الراوية والشخصية المحورية في الرواية، المتحدّرة من الرقّة السورية، ونيكولاس، عالم الفلك الألماني والأستاذ في جامعة ميونيخ. تتمظهر العلاقة الثنائية بين الأنا والآخر المختلف في ثنائيات متعدّدة، مكانية، وزمانية، وشخصية، ونصّية. تتفاعل في ما بينها، وداخل الثنائية الواحدة، وتتمخّض عن هذا التفاعل المزدوج نتائج مختلفة. من هذه الثنائيات، على المستوى المكاني: ألمانيا - سوريا، كولونيا - الرقّة، الوطن - الملجأ، الكاتدرائية - الكنيسة، الشقّة الكولونية - البيت الرقّاوي. وعلى المستوى الزماني: الحاضر - الماضي، الحاضر - المستقبل، الراهن - التاريخ. وعلى مستوى الشخصيات: لميس - كارمن، نجوى - نيكولاس، أسعد - آنّا، بسام - كارمن. وعلى المستوى النصّي: الوقائع - الذكريات، السرد - الحوار، السرد - الوصف. وبين هذه الثنائيات وغيرها، يتحرك مكّوك السرد، في حركات غير متساوية لينسج النصّ الروائي.

كثيرة هي الموضوعات التي تطرحها شهلا العجيلي في "صيف العدو"، فنقع على: اللجوء السوري إلى الغرب، الآثار المدمّرة للحرب الأهلية أو العالمية، فشل الزيجات غير المتكافئة اجتماعيًّا، الاندماج في مجتمع غريب، تشابه التجارب الإنسانية، والصداقة العابرة للقوميات، ونخلص إلى أنّ العالم يتّسع للجميع، وأنّ الجسور أمكنة، وأنّ الآخر ليس عدوًّا بالضرورة.

تتحرّك الحوادث بين فضاءين روائيين محوريين هما: مدينة كولونيا الألمانية، ومدينة الرقّة السورية. يحتضن الأوّل الوقائع التي تشغل حيّزًا ضئيلاً من الرواية، ويمتدّ زمنيًّا على بضعة أيام. ويحتضن الثاني الذكريات التي تشغل الحيّز الأكبر منها، ويمتدّ زمنيًّا على قرنٍ ونيّف، ويغطّي ثلاثة أجيالٍ من أسرة الراوية. وكثيرًا ما يستدعي الفضاء الأوّل الثاني، فتشكّل الوقائع تحريضًا على التذكّر، واستحضارًا للماضي، في محاولة لاستعادة توازن مفقود في علاقة الشخصية الراوية بالحاضر، جرّاء الحرب المندلعة في الوطن.

في الوقائع، تحلّ الراوية لميس، الثلاثينية السورية الهاربة من جحيم الحرب، ضيفة موقّتة على صديقتها كارمن، الروائية الألمانية التي كانت قد حلّت ضيفة على أسرتها في الرقّة قبل عشرين عامًا، خلال دراستها اللغة العربية في جامعة دمشق وقيام أخيها نيكولاس بتجارب فلكية في الرقّة، وذلك قبل انتقال لميس إلى ميونيخ لمتابعة الدراسة في جامعتها بمنحة وفّرها لها الأخير. خلال هذه الفترة، تتنقّل بين شقّة كارمن في شارع شيلدرغاس، وشقّة عبّود، رفيق الصبا المتحدّر من أبٍ سوري وأمٍّ تشيكوسلوفاكية، ونادي أستوريا المطلّ على بحيرة أديناور، ومرافق مدينة كولونيا الأثرية والسياحية. وتنخرط في حوارات وذكريات مع كارمن وعبّود، وترى المدينة بعيني سائحة لا لاجئة، وتعقد المقارنات بين لوازم الفضاءين الروائيين ومتعلّقاتهما البشرية والزمانية والمكانية. على أنّ الواقعة الأهم هي اكتشاف لميس أنّها كانت أسيرة شعور بذنبٍ وهميٍّ طوال عشرين عامًا، ترك تأثيره في خياراتها ومستقبلها. تتذكّر لميس شذرات من سيرة أجيالٍ ثلاثة من أسرتها، بدءًا بالجدّة المتحدّرة من بيت لحم لأبٍ قُتِلَ في حادث إطلاق نار في القدس العام 1936، وأمًّ انتحرت إثر احتراق بيتها وابنها، والجدّ ابرهيم آغا، تاجر القطن والحبوب الذي جاء بها، ذات يوم، من بيروت، بعدما شاهدها ترقص في فرقة بديعة مصابني، مرورًا بالأب عامر الذي ورث حبيبة أخيه، بعد رحيله المفاجئ إلى اليونان، وزواجه الفاشل منها، وخيانته إيّاها، والتحاقه بأخيه في اليونان حيث لقي حتفه فيها، والأمّ المرأة الجميلة التي لم تنصفها الحياة، فحملت غدر الأخوين فارس وعامر، حتى إذا ما ابتسمت لها بالتعرّف إلى نيكولاس والانخراط معه في علاقة جميلة، تقف ابنتها لميس الراوية التي كانت تكنّ مشاعر ملتبسة للأخير، هي مزيج من الحب والغيرة والعداوة، في وجه هذه العلاقة، ما أدّى إلى عدم اكتمالها، فيلازمها شعور متأخّر بالذنب، وصولاً إلى تعلّمها ركوب الخيل على يد السائس أبي ليلى الذي يدفع ثمن نجاحه في عمله وضريبة معارضة أولاده للنظام، وهذا ينسحب على خال الراوية نجيب، الشاب الحيوي الدمث المحبوب، الذي يُعتقل بتهمة الشيوعية، ويُعاد إلى ذويه جثّةً هامدة.

في الذكريات ما يتعلّق بعبّود، رفيق الصبا والحبيب المؤجّل، وتفكّك أسرته، إثر اكتشاف أمّه التشيكوسلوفاكية زواج أبيه من أخرى، وعودتها إلى ذويها تاركة عبود لقدره، ما يشير إلى فشل الزيجات التي يصدر أطرافها عن منظومات قيم مختلفة، وهذا ما ينطبق على علاقة كارمن الألمانية وبسّام السوري - الفلسطيني أيضًا.

على أن العلاقة بين الوقائع والذكريات هي علاقة استدعاء الأولى للثانية، بقرينة التشابه أو الاختلاف، ممّا يتمظهر في المقارنات الكثيرة التي تعقدها الكاتبة/ الراوية؛ فرؤية لميس نهر الراين تذكّرها بالفرات، والحي الكولوني يذكّرها بالحارة الرقّاوية، وروائح متجر الكولونيا الشهير تعيدها إلى أحضان جدّها الآغا وجدّتها، وزيارة كاتدرائية كولن دوم تستدعي زياراتها الكنيسة الصغيرة في الرقّة. وهكذا، يسكنها الوطن في الملجأ، وتطاردها الذكريات.

نكتشف الوطأة الثقيلة التي تتركها الحروب، على علاقات الناس، وانعكاسها على مساراتهم ومصائرهم، فتؤول كثير من العلاقات إلى الفشل، وتُجهَض إخرى قبل أن تؤتي أُكُلَها. تفشل علاقات وتُجهَض علاقات. الفشل والإجهاض يتمّان لأسباب مختلفة تأتي الحرب في طليعتها. هذا في المسارات، أمّا في المصائر فنرصد مقتل استيفان، والد الجدّة، في القدس العام 1936، وانتحار أمّها لوسي، ومقتل الخال نجيب على يد المخابرات، ومقتل الأم نجوى بانفجار لغم أرضي، ومقتل أسرة جدّة نيكولاس وكارمن في الحرب العالمية الثانية. وفي الحرب تختلط المعايير، فإذا من نظنّه العدو يتمخّض عن صديق وفي، وإذا من نعتبره الجار والشريك يقلب ظهر المِجَنّ ويُبدي العداوة.

تضع شهلا العجيلي روايتها في سبع وحدات سردية متفاوتة المساحة، وتُصدّر كلاًّ منها بعنوان مناسب. على أن العلاقة الزمنية بينها لا تتناسب مع تموضعها النصّي، فربَّ وحدة لاحقة تعود بالزمن إلى فترة سابقة، وينتظم هذه الوحدات مسار شبه دائري متعرّج، ما يجعل الرواية تكسر نمطية الخطاب الروائي الكلاسيكي. وتعهد الكاتبة بعملية الروي إلى راوية مشاركة تروي بصيغة المتكلّم المفتوحة على صيغة الغائب، وبذلك، تنطوي على راوٍ عليم ضمنًا. وهي تتراوح بين السرد والوصف ما يجعل النصّ غنيًّا بالمعارف المتنوّعة. فيجمع بين متعة السرد وفائدة الوصف، وكلاهما تحتضنه لغة رشيقة، هي في منزلةٍ وسطى بين منزلتي لغة الأدب المداورة ولغة التقرير المباشرة.


كادر

تتحرّك الحوادث بين فضاءين روائيين محوريين هما: مدينة كولونيا الألمانية، ومدينة الرقّة السورية. يحتضن الأوّل الوقائع ويحتضن الثاني الذكريات

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم