الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

فقراء لبنان ووعود التقشّف والإنقاذ

المصدر: "النهار"
أنطوان الخوري طوق
فقراء لبنان ووعود التقشّف والإنقاذ
فقراء لبنان ووعود التقشّف والإنقاذ
A+ A-

"هنا في هذه المدينة لم يقتلونا بالرصاص، قتلونا بالقرارات" (غبريال غارثيا ماركيز)

يبدو أن السياسيين في لبنان قد تحوّلوا بين ليلة وضحاها إلى خبراء وفقهاء إقتصاديين وإصلاحيين عقلاء يتصنعون الغيرة والقلق، وإلى ثوّار متمرّدين على الهدر والفساد عبر الأرقام التي يوردونها للمرّة الأولى منذ تداولهم مختلف الوزارات على مدى عقود من الزمن عن رواتب ومخصّصات وتعويضات خيالية وبدلات تمثيل وسفر وعن تلزيمات بالتراضي وتهرّب ضريبيّ وإيجارات مبان حكومية مقفلة وسلسلة رتب ورواتب غير مدروسة وعن نهب مزمن في الوزارات والمجالس الرديفة لها وعن مرافئ وحدود سائبة وجمعيات وهميّة لذوي القربى. إنهم يبدون وكأن لا ناقة لهم ولا جمل في ما آلت إليه الأمور في لبنان من عجز وانهيار وإفلاس ومديونية وإفقار ورعب وهلع في صفوف المواطنين وخوف من "البهدلة".

هذا اللبنان المُنهك والموجوع شرع سياسيوه حديثاً بالتعرف على أعداد موظفيه وتضخم قطاعه العام بعدما حشروا فيه الأزلام والمحاسيب عند كل استحقاق انتخابي، وذلك بعد تلويح مؤتمر "سيدر" لهم بالمليارات التي هي في المناسبة قروض. وكأنّه لم يكن هناك من قبل لا باريس ولا روما ولا بروكسيل ولا قروض ولا وعود بترشيد الانفاق والاصلاح وسدّ المزاريب.

لنفترض أن المانحين في "سيدر" لم يفوا بوعودهم فماذا هم فاعلون؟ فهل كانوا يعرفون بما يجري في وزاراتهم ومؤسساتهم وصناديقهم ومرافئهم ومطاراتهم وسفاراتهم طوال سنين، مذ كان الدين العام يقارب الملياري دولار ويغضّون النظر؟ أم كانوا مأخوذين بحروبهم العبثية الصغيرة والكبيرة والمناكفات والنزاعات على الحصص والمواقع وإجراء القرعة على الثوب اللبناني؟ أم كانوا شركاء فعليين في صناعة الإنهيار والعجز عبر تغليب الزبائنيّة والمحسوبيات السياسية وعبر النهب المنظم للمال العام وعبر استبعاد الأكفّاء من اللبنانيين عن مواقع القرار؟

أغلب الظّن أنهم كانوا يعرفون وكانوا شركاء وقد أغفلوا عن قصد تطبيق القوانين. منذ بدعة حكومات الوحدة الوطنية لم يعد هناك من يسائل ولا من يحاسب ولا من يقترح خططاً إنقاذية بديلة، فالكلّ شركاء. لعلّ أكثر المناورات السياسية خسّة هي تحدّث فريق سياسي باستعلاء وتعجرف عن مسؤولية الغير وارتكاباته وتبرير الممارسات والإرتكابات نفسها من فريق المتحدّث نفسه.

هذا اللبنان المخدوع والواقف على شفير الهاوية، لم يشهد في تاريخه إلاّ نادراً استقالة وزير مختص أو مسؤول رفيع أو حكومة بسبب فضيحة أو عجز أو أي أزمة من الأزمات، سواء أكانت تتعلّق بالمال العام والإقتصاد أو البيئة أو بالتربية أو الطاقة أو الزراعة أو الصناعة أو الصحة أو الأمن أو الأشغال، ما عدا بعض الإستثناءات التي شهدت استقالة وزراء تعارضت رؤيتهم الإصلاحية وخططهم الوزارية مع سياسات الحكومات التي كانوا جزءاً منها، أمثال حسن مشرفية وهنري إدّه وغسان تويني وإميل بيطار في السبعينات، وجورج أفرام في التسعينات.

لعلّ اللبنانيين يتذكرون المواجهة الضارية التي خاضها الدكتور إميل بيطار مع مافيات مستوردي الأدوية التي كانت محمية من الشركاء في مواقع القرار، التي تمثل تحالف المحتكرين وكبار التجار وأصحاب الرساميل. المطلوب استقالة واحدة عند المنعطفات الخطيرة، وليس انتحاراً كما حصل لرئيس جمهورية البيرو الذي اتُّهم بالفساد، ولا سجناً كما حصل لرئيس الكيان الصهيوني ولرئيس جمهورية البرازيل، ولا اعتذاراً وانحناءً أمام المواطنين كما فعل الوزير الياباني أمام مواطنيه عندما انقطعت الكهرباء عن المدينة لدقائق معدودة.

فالطبقة السياسية التي تملأ الأثير بالفضائح والندب والتهويل والتلويح بقرارات تقشفية موجعة، هي نفسها كانت في سدّة المسؤولية أقلّه منذ الطائف حتى اليوم. هي هي نفسها أيام الحرب وأيام السلم، وكأن من نفد بريشه من اللبنانيين خلال سنوات الحرب الأهليّة قد تسلّمه جلّادوه من جديد في أزمنة السلم، وها هم يجهزون عليه بأقسى عنف إقتصادي وصحي وبيئي وتربوي وديني وطائفي وثقافي.

وهنا لا بدّ للمواطن من التساؤل: ألم تستشعر الطبقة السياسية المالكة سعيداً منذ عقود، أخطار المديونية العامة والعجز واتّساع الهوّة بين الإنفاق والواردات وبين الأغنياء والفقراء وأخطار اندثار الطبقة الوسطى؟ فالحكم هو استشراف للمستقبل وتراكم خبرات وتجارب وتصحيح دائم للعثرات، لا كما يفهمه المتنطحون للشأن العام عندنا فرصة للإثراء والوجاهة والتوريث السياسي.

يتساءل اللبناني أيضاً: لماذا استفاقت الطبقة السياسية الآن والإفلاس يدق الأبواب، وهل باستطاعة من كان سبب البلاء أن يصبح بسحر ساحر قادراً على الإنقاذ وانتشال اللبنانيين من الغرق؟

على رغم ذعر اللبنانيين من تسريبات السياسيين حول الأوضاع المالية، لا تزال الطبقة السياسية تقارب هذه الأوضاع بالعقلية التي أدّت إلى التّدهور. فهل من المعقول معالجة هذه الأزمة الخطيرة بالتكتم وبهذا الكمّ الهائل من التسريبات والشائعات والتكهنات التي يحمّلها البعض للإعلام، من دون أن يُطلّ أحد بخطة علمية واضحة وصريحة تعدل بين اللبنانيين ولا سيما أن هذه التسريبات تجيء من مختلف مكوّنات السلطة وكأننا أمام حكومات لا حكومة واحدة. فهناك من يؤكد معالجة الوضع المالي بالتسلل إلى جيوب الفقراء من اللبنانيين والإجهاز على مكتسبات العاملين في القطاع العام من ذوي الدخل المحدود التي حصلوا عليها إثر نضالات عمرها عشرات السنين، وعبر الضرب العشوائي لأنظمة التقاعد وخضوعها لمزاجية بعض الوزراء في عدم تطبيق القوانين التي أقرّها مجلس النواب. ليأتي من ينفي كل ما جرى تأكيده في اليوم ذاته.

في مطلق الأحوال لقد فعلت هذه التسريبات والإجتهادات فعلها في تخويف اللبنانيين وإثارة قلقهم ونقمتهم وانعدام ثقتهم بالذين يتولون إدارة شؤونهم، كما فعلت فعلها في التأثير على العملة الوطنية وفي انكماش الأسواق وتطفيش المستثمرين.

لعلّ الأدهى والأنكى من كل ذلك، ما يتمّ تداوله عن الفقراء وذوي الدخل المحدود. إذ يبدو أن أهل السلطة في غالبيتهم غرباء عن هواجس هذه الشرائح الكبرى من اللبنانيين، بل هم في غالبيتهم هواة تصريحات ومقابلات تلفزيونية تفتقر إلى الدقة في اختيار التعابير عن الوضع الاقتصادي، كما يفتقرون إلى المعرفة الإجتماعية ويجهلون معايير الفقر ومحدودية الدخل إذ إن بعض الخبراء الاقتصاديين من خارج السلطة (ولبنان غني بالكفاءات) يوردون أرقاماً مقلقة لا بل مخيفة عن الغنى ومستويات الفقر بحيث أن الأغنياء باتوا يشكّلون نسبة 10% والفقراء وغير الميسورين يشكلون 90% والذين يعيشون على الحدّ الأدنى للأجور 20%. كما أن حديث السياسيين عن الفقراء يشوبه استعلاء وغطرسة، وأحيانا غباء، كحديث نائبة عن تقبيل الفقراء ليدها التي أتعبها التصدّق في المواسم الإنتخابية.

كما أن الكلام عن الفقر في بيانات التكتلات السياسية يأتي في أغلب الأحيان من باب رفع العتب والتعاطف الشعبوي. كلّنا يذكر كيف خلت بيانات 8 و 14 آذار خلال المراحل الماضية من أيّ همّ اجتماعي أو اقتصادي، مع العلم أن فقراء لبنان كانوا وقود كل النزاعات والحروب وسعي الطامحين إلى السلطة. كذلك فالإشارات الخجولة من السياسيين إلى الفقراء وذوي الدخل المحدود، لا تستند إلى معايير حقوقية إنسانية ولا إلى دراسات علمية تبيّن كلفة معيشة الأسرة اللبنانية في السكن والطبابة والتعليم والمأكل والمشرب والملبس، بمعزل عن أي رفاهيّة بعدما أصبح معيار اليُسر والعُسر عند الطبقة السياسية متوقفاً على خطّ الهاتف الخليوي إذا كان ثابتاَ أم لا. فالذين يمتلكون خطاً هاتفياً ثابتاً هم من الميسورين بحسب قول أحد الوزراء الأثرياء الذي سيكون حكماً من ضمن الساعين إلى وضع خطط للإصلاح والإنقاذ.

من المفارقات الغريبة في الحياة السياسية اللبنانية، أن العديد من النواب والوزراء يتحدّثون عن الدولة بصيغة الغائب كأنهم ليسوا شركاء في السلطة أو جزءاً من هذه الدولة، فيصدرون التوصيات ولكن لمن؟ فهل على المواطنين دفع فاتورة الفشل السياسي في إدارة البلاد ودفع فاتورة العبث والإرتجال والتفلّت من تحمّل المسؤوليات؟ وهل الأزمة الإقتصادية محض أزمة تقنيّة بحتة، معالجتها هي تقنية بحتة أيضاً أم أنها في الأساس هي مشكلة سياسية؟

وهل تصطلح أمور الإقتصاد بمعزل عن إصلاح بنية النظام السياسي؟ وهل تصطلح أمور الإقتصاد، وفي البلاد جزر أمنية ومذهبية؟

كيف لذهنية سياسية تعجز عن إقرار موازنة وقطع حساب وتقفل مجلس النواب لسنوات وتمدّد ولاية النائب مرّات وتُبقي البلاد دون رئيس جمهورية لمدّة سنتين ونصف سنة، وتهدر الأشهر تلو الأخرى عند تشكيل كل حكومة بسبب التقاتل على الوزارات بين سيادية وخدماتية وبين وزارات دسمة وأخرى أقلّ دسماً، كيف لها أن تُؤتمن على حياة اللبنانيين حاضراً ومستقبلاً؟ كيف لهذه الذهنية التي تجعل من كل وزير ناطقاً باسم فريقه السياسي والطائفي معتبراً وزارته كانتونا مستقلاً بذاته في جمع غريب بين موالاة ومعارضة في حكومة واحدة، كيف لها أن تنقذ بلاداً من الإفلاس ومواطنيها من الفاقة؟ وكيف لها أن تضع رؤية موحّدة للخروج من هذا النفق المظلم؟ أما حان الوقت لتأليف حكومات من الإختصاصيين قبل موت المريض؟

الكل يتكتّم على الإنهيار ويدعو اللبنانيين إلى شدّ الأحزمة والتقشّف. فالتقشّف بحسب القاموس، تَقَشَّفَ الرجل: قترّ على نفسه واكتفى بما هو ضروري وانصرف عن الملذّات والتنعم.

وقَشَفَ الرجل : رثّ حاله وهيئته.

فهل سيتساوى اللبنانيون في الإنصراف عن الملذات والتنعم في ظلّ المواكب والمكاتب والولائم الفخمة والأعراس الأسطورية والمطارات المزدحمة بالوفود الرسمية التي تستجدي الدول باسم اللبنانيين والشركات الكبرى المعفاة من الغرامات والثروات المهرّبة إلى الخارج؟ علماً بأن ملذات الفقراء ستنحصر في تأمين ضروريات العيش وفي الإنجاب والتزاحم على أبواب السفارات والصيدليات ودور العبادة والانخراط في الجيوش الإلكترونية، والبحث المستمرّ عن نواطير لهذا المال السائب.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم