السبت - 20 نيسان 2024

إعلان

قيود

المصدر: النهار
باسكال جروج
قيود
قيود
A+ A-

الحريّةُ كلمةٌ واسعةٌ جدًّا، يختلف فهمها بين الناس، وذلك لعدّة أسباب، منها المرحلة العمريّة والبيئة والتقاليد المحيطة بكلٍّ منّا

لكنّ الحريّة، هذا النسر المحلّق بعيدًا، عاليًا، نصبو إليه ولا نلامسه طيلة حياتنا، لا يمكننا فهمها إلّا متى دخلنا أعماقنا وبحثنا في معرفتنا الدفينة للحقائق العامة المختلفة من خلال ذاكرة الكون خاصتنا، وطبعًا لا يجدر بنا دخول قدس أقداسنا إلّا حفاة، عراة من كلِّ قيدٍ تفرضه علينا هذه الدنيا المادية.

بعدَ أن نكون قد تجرّدنا من كل القيود، أكانت دينية أم علميّة أم تقاليد وعادات اعتدناها ووجب علينا العمل بها إذ فرضها علينا هذا المجتمع السخيف، قد نصل ربّما إلى فهم الحرّية. لكن بعد عودتنا من رحلتنا البحثيّة هذه سنعود خرافًا لن تتجلّى فينا تلك الحقيقة المكتشفة، بل على الأرجح سنعاود طمرها مع باقي ذكرياتنا ومعارفنا النائمة، قد نتخلّى عن بعض القيود إلّا أنّنا سنبقى أسرى لقيود أخرى، سنبقى نخاف العالم وردّات فعله، ولن نكون أحرارًا، علمًا أنها نابعة من كونه هو الآخر مقيّداً بتقاليده، مساقاً منها، تطالبه بالدفاع عنها وأحيانًا بطرق وأساليب عنيفة، وما أرقى هذه التقاليد والمفاهيم التي تتطلّب حمايتها عنفًا أو كرهًا أو كذبًا.

بعد فهمنا الحريّة والتّحرّر سندرك أنّ بعض تقاليدنا سخيفة ونحن لطالما أقنعنا أنفسنا بحسنها وحقها الذي لا يناقَش، وكنا مدافعين شرسين عنها، وبذلك ضحكنا من ذواتنا فقط لنُري العالم ونقول إنّنا نقوم بها لاختيارنا، فنحن أحرار نختار ما هو حسن، ولكن هذه أفضل وجوه حمقنا وتبعيّتنا العمياء.

طوبى لمن يقدر بعد فهمه الحرّية أن يعمل بها، طوبى لمن رفض رأي الآخر لاقتناعه برأيه وإيمانه بذاته إلا أنه تقبّل اختلاف الآخر. يا أخي في الإنسانية إعلمْ أنّ الحقيقة نسبيّة والخير والشرّ أيضًا نسبيٌّ بعض الشيء. طوبى لمن تحرّر مقدرًا ومتقبِّلًا الاختلاف ومحترمه.

الآن قل لي مَن حرٌّ أكثر، أذاك الّذي قيّدته السلاسل الحديديّة بسبب ثورته النابعة من صدق مشاعره الداخليّة وقد تفجّرت جريمته في وجه مجتمع بائسٍ مسح غبارها وما حاول رؤية حسناتها بسبب خوفه من التغيير، أم ذاك الطليق الّذي لا رأي له بل كل ما يفعله اقتباسات لما سبق، يسير على طريقٍ مرسوم سلفًا باعتباره حكمةً منه ليصل برًّا آمنًا، ومن قال له عن ذاك البرِّ؟! هل مَن أسروا بطرس كانوا أحرارًا أكثر منه وهو مكبّلٌ بسلاسل من حديد؟ هل من صلبوا المسيح كانت لهم إرادة حرة أو فكر حرّ أكثر منه؟ وماذا عن تشي غيفارا؟ هل انتهى عصر الأحرار؟ مجتمعنا ماهرٌ بقمع الأحرار لخوفه من ثورتهم، فلا أحد يؤذي إلا من اعتراه خوف عظيم. مجتمعنا يتفنّن بالقمع فيقتل الجسد، القلم، يقتل اجتماعيًا ونفسيًا، ولكن لا خوف منه، فلن يتمكن أبدًا من إسكات الكلمة أو إطفاء الروح أو إخماد لهيب الثورة أو محو الذاكرة الكونية. ماذا عن أبي العلاء المعري، جبران خليل جبران، جبران تويني؟ واللائحة تطول وتطول، فمهما قمعَ مجتمعنا من أحرار سيبقى المشعل مضاء.

هل كل شهيد مات من أجل حريته أو منهم مَن مات من أجل عبوديته؟ الحق أقول لكم كثر شهداء العبودية والجهل وهم مقتنعون أنهم ماتوا من أجل الحرية والتقدّم. مهما كانت معتقداتنا وإيماننا فهي تعطينا الحرّية أو العبوديّة، وذلك بحسب اختيارنا وتصرفاتنا. الآن الخيار لكل منا، فإمّا أن نتعلّم كيف نكون "عبيدًا" إنما أحرارٌ أو سنعيش "أحرارًا" إنما عبيدٌ.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم