الخميس - 18 نيسان 2024

إعلان

خفض الإنفاق العام لن يعالج مشكلاتنا الاقتصادية والمالية

جاد شعبان
خفض الإنفاق العام لن يعالج مشكلاتنا الاقتصادية والمالية
خفض الإنفاق العام لن يعالج مشكلاتنا الاقتصادية والمالية
A+ A-

من المفترض أن تقر الحكومة هذا الأسبوع موازنة جديدة لعام 2019، حيث سيتم تطبيق "تخفيضات جوهرية في الإنفاق"، وحيث "من المتوقع أن يقدم الجميع تنازلات مؤلمة". الهدف الرئيسي هو خفض العجز الحكومي واحتواء نمو الدين العام، في انتظار قروض "سيدر" التي من المفترض أن تساعد في تمويل البنية التحتية وخلق فرص عمل جديدة. لكن هذا كله لن يحل مشكلاتنا.

وضع الدين العام ليس جيدًا، لكنه أيضًا ليس كارثيًا. يبلغ الدين العام حاليا كحصة من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي، نحو 150٪، لكن هذه الحصة كانت 185% في العام 2002، السنة التي تم فيها اقرار حزمة لخفض الديون من ضمن "باريس 2". بالاضافة الى ذلك، أكثر من نصف هذا الدين هو الآن بالليرة اللبنانية، و92٪ من إجمالي الدين بجميع العملات تسيطر عليه مؤسسات محلية (مصرف لبنان، المصارف المحلية التجارية والمؤسسات العامة اللبنانية). لذا من السهل التحكم فيه نظرًا إلى ارتباطه بشكل وثيق بجهات محلية وليس بمؤسسات أو دول أجنبية.

المشكلة الأساسية في مكان آخر. منذ العام 2011، بالتوازي مع الحروب الإقليمية وعدم الاستقرار السياسي المحلي، انخفض نمو الناتج المحلي الإجمالي في لبنان بشكل حاد، وهذا تسبب في انخفاض المداخيل لدى اللبنانيين، وفقدان فرص العمل، وانخفاض المداخيل الضريبية التي تجمعها الحكومة (حيث أن معظم الضرائب لدينا هي غير مباشرة وترتبط بشكل وثيق بالاستهلاك المحلي). في موازاة ذلك، قرر مصرف لبنان زيادة أسعار الفائدة لجذب المزيد من الدولارات والمحافظة عليها، من أجل تعزيز الاحتياطيات بالعملات الأجنبية. ونحن بطبيعة الحال في حاجة إلى هذه الاحتياطيات لتمويل وارداتنا (نظرًا إلى محدودية انتاجنا محليًا)، وللتأكد من تغطية السيولة بالدولار في حال اندلاع أزمات سياسية قد تؤدي الى زيادة طلب المودعين على العملات الأجنبية الأكثر أمانًا.

ولكن من خلال زيادة أسعار الفائدة هذه، قرر معظم الناس تجميد أموالهم في البنوك. فانخفض الاستهلاك وتراجعت الاستثمارات؛ وارتفعت تلقائيا أسعار الفائدة على القروض، مما رفع كلفة الاستدانة والاستثمار لدى الشركات. ووصلت حديثًا الفوائد الدائنة على قروض الأموال للشركات الى أكثر من 15٪. مَن الذي سوف يقترض ويستثمر في هذه الظروف؟

نحن الآن في وضع يسمّيه الاقتصاديون "stagflation"، أي ركود مع تضخم، حيث يتراجع أو ينعدم النمو الاقتصادي بالتوازي مع ارتفاع في الأسعار. قروض "سيدر" لن تحقق النمو على المدى القصير إلى المتوسط، حيث أن قروض تمويل البنية التحتية تستغرق سنوات وحتى عقودًا لتحدث تأثيرًا في الاقتصاد. خفض العجز، خاصة من طريق زيادة الضرائب غير المباشرة أو خفض رواتب موظفي القطاع العام، سيكون غير عادل من الناحية الاجتماعية وسوف يزيد من انخفاض الاستهلاك الخاص ويمعن في خفض النمو أكثر. إن الاستمرار في سياسة تجميد التوظيف في القطاع العام وخفض الإنفاق الضروري غير مجدٍ على المدى المنظور، حيث لا يزال القطاع الخاص في الظروف الحالية غير قادر على خلق الوظائف الضرورية والنمو الاقتصادي المطلوب.

المطلوب هو خطة تنمية اقتصادية شاملة تربط السياسة المالية (كيفية ادارة الحكومة لإنفاقها وإيراداتها) بالسياسة النقدية (كيفية تحديد أسعار الفائدة ولجم التضخم). على مصرف لبنان أن يعود إلى دعم أسعار الفائدة على نطاق واسع لخفض كلفة التمويل والسيطرة على التضخم. وتحتاج الحكومة إلى خفض الإنفاق غير المجدي واستخدام المدخرات لتمويل مشاريع فعالة على المدى القصير تولد دخلًا وفرص عمل سريعة. ويمكن أن تطلب الحكومة بالتوازي فترة سماح على ديونها من المصارف المحلية، على غرار ما فعلت في العام 2002، إلى أن ترتفع إيراداتها مرة أخرى. منذ العام 2011 الى اليوم شهدت مصارف المجموعة "ألفا" (أكبر 14 مصرفًا تجاريًا) زيادة في متوسط أرباحها الصافية بنسبة 7٪ كل عام. هذا على الرغم من تراجع الناتج المحلي الإجمالي للبلاد خلال الفترة نفسها والمعاناة الكبيرة للعديد من القطاعات الأخرى. لذلك، من العادل أن يطلب من المصارف المساهمة أكثر من غيرها للمساعدة في تحقيق التوازن في الموازنة العامة، من خلال قبول سندات خزينة بصفر فائدة لمدة عامين، على غرار ما فعلوه في العام 2002.

في بلدٍ وصل فيه معدل الفقر الى 35٪، وفي ظل تجزئة القطاع الخاص إلى الآلاف من الشركات الصغيرة والمتوسطة التي تتركز في التجارة والخدمات، يحتاج القطاع العام إلى التدخل والتخلي عن نموذج التقشف غير الناجح. ولا ينبغي أن يتم التوظيف العام في الأجهزة الأمنية أو في المؤسسات العامة غير الفعالة. يجب تخصيص المزيد من الموظفين وزيادة الموازنات للمستشفيات العامة والجامعة اللبنانية والمحميات الطبيعية والبلديات والإسكان الاجتماعي والفن والثقافة والمواقع السياحية والقطاعات الحيوية الأخرى في اقتصادنا. عوض المزيد من التقشف، نحتاج فعلاً إلى زيادة الانفاق العام الفعال للخروج من هذه الأزمة.

أستاذ اقتصاد في الجامعة الأميركية في بيروت


الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم