الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

"عشاق الأقصى وبورما" لأنور الموسى: أين العدل؟

مهى عبدالكريم هسي
"عشاق الأقصى وبورما" لأنور الموسى: أين العدل؟
"عشاق الأقصى وبورما" لأنور الموسى: أين العدل؟
A+ A-

مثلُ نذْرِ طلاقٍ لأعزَبَ، يستحلفُ فيه قطّاعُ الطّرق، يكرّرونَ اللاّزمة على جدرانِ المراكزِ الثّقافيةِ وأسوارِ المدارس، وبوابات الدخول! يكرِّرون اللازمة ولا يأبهونَ لمطلعِ الحَدَثِ، للبّ الحدَثِ، لحرفِ الرّويِّ يختمُ الجرح. وهو يشدُّ ياقاتهم، يصفعُهم، يدفعُهم عن النَّارِ في آخرِ النَّفَق، عن وهْمِ الأمان، عن راياتٍ تغتصِبُ هضابَ البلاد. يبكي عليهم، ثم يتشفّى. يكيلُ لهُم ويتوعّد، يثورُ، يبكي، ثمَّ يهدأ. يصرُخُ ويضربُ كذئبٍ جريح، ويحملُ الأطرافَ المبتورةَ عقدةَ ذنْب. كل ذلك في كتابه "عشاق الأقصى وبورما" لأنور الموسى عن "دار النهضة العربية". 

عنوانٌ جاءَ بلونٍ أبيضَ مبهجٍ، قد يوحي لارتباطٍ حميميّ للذاتِ الشاعرة بمضمونِ العنوان، ولكنّهُ لا يوحي حقيقةً بولادةِ ديوانٍ شعريّ. الشاعرُ لم يتركْ لنا لَذّةَ الاستنتاجِ، فالعنوان كان واضحاً، خالياً من الشاعريةِ، أقرب إلى عنوانِ روايةٍ أو مقالٍ، ليفاجئَنا بأوّلِ قصيدةٍ يستهلُّ بها الديوان، وهي عن ريمتِهِ، فنقفُ حائرين ونقلبُ إلى الفهرسِ لنتأكّد من عناوينِ المائةِ قصيدة.

كانت العناوين واضحة وصريحة ومفسّرة لكل ما قد تبوحُ به تلكَ القصائد، وإنْ دلَّ هذا على شيء، فهو الشفافية. لكن اختلاف مواضيع العناوين يُظْهرُ كثرةَ ما يختلجُ في نفسِ الشاعرِ من أمورٍ وقضايا يودُّ البوحَ بها، فأحكمَها جميعَها في هذا الديوان وكأنّه يقولُ: أين العدل؟

فلماذا أخفى الشاعر في عنوانه بعض الإيحاءات لوجود قصائد بعيدة من العنوان الأساسي؟ وأين الأنثى من هذا العنوان؟

لم تغب الأنثى في ديوانه، من خلال إظهار الحبّ للأمّ وللحبيبة، إلى ميلاد الطفلة نورما، وإن يدلّ هذا على شيء فهو التمسّك بالحبّ والسلام والأمل. هذه العناصر الغائبة في واقع العالم العربي جسّدها الموسى في الأنثى، وهذا ما أدّى إلى غيابها في عنوانِ الديوان؛ في ظلِّ القهرِ والظلم والحربِ والموت والخيانة والفقر والكفر والجوع والمرض المتفشّي في كل قصائدِه، وكأنّه يتنهّد في كلِّ قصيدةٍ ويثورُ فيشتُم وتظهر عصبيّتُهُ حيناً ويتدفّقُ حناناً حيناً آخر، وهذا ما يدلُّ على روحِ الشاعرِ الطيبة المؤمنة الوفيّة المسالمة والمظلومة التي تبحث عن ذاتها في هذه الحياة الظالمة وكأنها حِملٌ ثقيل على كتفِه. ولذلك، من الممكن أن تُقرأ القصائد باعتبارها، بشكلٍ أو بآخر، نوعًا من الترجمة لحالة التشتّت المنبعثة بطبيعة الحال من العلاقة بينه وبين هذه المشاعر التي تحضرُ كلُّها دُفعةً واحدة وكأنّها كُتِبت وفقًا لاستجابةِ الشِّعر لضغوطاتِ الحالةِ النفسيةِ المُعاشة في محاولةٍ منه أن يتكلّمَ باسمِ الشعب لا باسمِ الفرد، ليصبحَ هذا التخبّط حالة جماعيّة لا حالة نفسيّة فرديّة، وذلك يظهر من خلال تلوّن القصائد: من الشِّعر الحرّ إلى القصيدة العمودية إلى قصيدة التفعيلة على تنوعها، فضلاً عن تداخل المفردات التي تُشير إليها في قصيدة واحدة. وهذا التداخل لا يُمكن أن يكون من قبيل المصادفة، وإن جاء مرّاتٍ، وفي عدّة قصائد، من بابها.

والإنسان عند الموسى يعني الإنسانية جمعاء. والتّمييز في هذا الشّعر بين إنسانٍ وآخر ليس من النّاحية القوميّة أو الطّائفيّة أو العرقيّة، وإنّما بين ظالم ومظلوم - غاصب ومغتصَب - مُسْتَغِلّ ومُسْتَغَلّ. إذاً هذا الشّعر هو شعرٌ مقاوم ملتزم، يقاومُ الظّلمَ والقهرَ والاستبدادَ عامّةً. والشاعرُ منذ زمنٍ طويل حملَ قضيّةَ فلسطين وعايشها في كتاباتِهِ، لذلك تجربته كانت أصيلة وفيها شيء من السادية تجاه الصهيونية، أفرزت أدباً صادقاً نبعَ من نيرانِ المقلاةِ العربيّة والفلسطينيّة والمقاومة والتي لها أبعاد ثلاثة عبّر عنها بشكلٍ واضحٍ: البعد الإنسانيّ، والبعد الاجتماعيّ، والبعد القومي.

وبما أنَّ الحدود بين الأجناس الأدبية، قد أصبحت "أقل استقراراً من الحدود الإدارية للصين" كما يُقرّ جاكبسون، يمكننا الإشارة إلى هذا التميّز. بدءاً من الجملة الوثوقيّة الواضحة، مع ميل إلى التّبسيط، وذلك لأنّ شعرَه يرتبطُ بالجماهير، فهو يريد أن يثوّرَها ويحمّسَها، فضلاً عن الميلِ إلى النّثريّةِ والمباشرةِ في بعضِ الأحيان. ولا ننسى التقنيات السردية التي تخللت بعض القصائد مع الحفاظ على معمارِ القصيدةِ الإيقاعيّ والتصويري، حيث تجلّت براعةُ الشاعرِ في نسج بعض القصائد على شكلِ حكايةٍ مكتملة العناصر؛ من ساردٍ وحدث وزمان ومكان. وتحضرُ أقوالُ الشخصيات، لنكونَ أمامَ حكايةٍ متعددة الأصوات. وقد استُخدمت تقنيةُ الحوارِ بشكلٍ فعّال. ثانياً، طغت عليها اللغة الشاعرية الجمالية المكثّفة المستمَدّة من اختيار الكلمات المتقابلة التي تخلقُ المفارقة والتضاد، وفضلاً عن كثرة السجع والتّناص. لذا كانت الصور الكثيفة حيلتَه للبكاءِ بصوتٍ عالٍ بعد الكبت، لكن بلا نحيب أو دموع. تُسهِم هذه التمازجات الشعرية السردية، في خلقِ مجالٍ أرحب لأفقِ القصيدةِ الدلالي والجمالي.

اقرأ لكاتب الكتاب أيضاً: سرقة جهود الآخرين في البحوث والدراسات والمواقع وذريعة الاقتباس

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم