الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

المعالجة بالصدمة ومؤتمر "سيدر"

المصدر: "النهار"
د.أيمن عمر – باحث في الشؤون الاقتصادية والسياسية
المعالجة بالصدمة ومؤتمر "سيدر"
المعالجة بالصدمة ومؤتمر "سيدر"
A+ A-

في الخمسينات من القرن العشرين وبالتعاون بين وكالة الاستخبارات الأميركية والطبيب النفسي الكندي البارز أيوين كاميرون نشأت فكرة العلاج بالصدمة في مجال الطب النفسي من طريق استخدام الصدمة الكهربائية على أدمغة المرضى النفسيين بهدف تحويل أدمغتهم إلى صفحة بيضاء لإعادة كتابة المعلومات الملائمة عليها. وتسبّب الصدمات الكهربائية فقداناً للذاكرة ونكوصاً سلوكياً، والشعور بالفراغ المطلق. ثم تأتي المرحلة الثانية من أجل بناء فكري جديد. وقد استمد عالم الاقتصاد اليهودي الحائز جائزة نوبل هذه النظرية وتطبيقها في مجال الاقتصاد، حيث أسّس لمدرسة جديدة في الاقتصاد سميت بمدرسة شيكاغو. هذه المدرسة "شيكاغو" التي تدعو إلى ترك الحرية الاقتصادية للرأسماليين، ومنحهم حرية التملك والعمل وإلغاء الحدود والعوائق واستبعاد أي بعد اجتماعي أو عاطفي أو إنساني، وخفض الإنفاق الحكومي وتسريح أكبر قدر من العمال من القطاع العام، وتسليم الإنتاج والتعليم والصحة للرأسماليين المقتدرين الناجحين، وهذا ما بات يسمى بالرأسمالية المتوحشة، أو "النيو ليبرالية". يقوم مذهب رأسمالية الكوارث على استغلال كارثة، سواء كانت انقلاباً، أم هجوماً إرهابياً، أم انهياراً للسوق، أم حرباً، أم "تسونامي"، أم إعصاراً، من أجل تمرير سياسات اقتصادية واجتماعية يرفضها السكان في الحالة الطبيعية. فالكارثة تضع جميع السكان في حال من الصدمة الجماعية والتي تؤدي إلى انهيار النظام القائم وتقبّل المواطنين لنظام اقتصادي جديد وإن فقدوا فيه جميع مكتسباتهم وحقوقهم الاجتماعية. ولتطبيق هذه السياسات لا بد من أن ينشأ تحالف نافذ بين عدد صغير من الشركات الكبرى وطبقة من السياسيين الأكثر ثراءً . وهنا تحدث تحويلات ضخمة للثروات من القطاع العام إلى يد القطاع الخاص. وتتسع الهوة بين أصحاب الثراء الفاحش وضحايا الفقر المدقع.

وقد عانت دول عدة من رأسمالية الكوارث والعلاج بالصدمة، بدأت ببوليفيا إلى الأرجنتين فبولندا ثم إلى روسيا وشرق آسيا بعد كارثة 1997 الاقتصادية، ثم استغلال كارثة تسونامي لتنظيف الشاطئ من قرى الصيادين وإحلال منتجعات سياحية ضخمة مكانها. لكن المفصل الحقيقي في تاريخ هذه العقيدة هو العراق، ففيه بلغت هذه العقيدة ذروتها.

الواقع الاقتصادي والمالي المنهار

لقد نبّهت في مقالات سابقة عدة عن خطورة الوضعين الاقتصادي والمالي، وأن الحفاظ على الليرة اللبنانية وحده غير كاف للاستقرار المجتمعي، وأنّه لا بد من سياسات نقدية ومالية تحفّز النمو الاقتصادي وتكافح البطالة وتخفّض من حدة التفاوت الاجتماعي. ويبدو أن هذه التنبيهات قد بدأت تلقى صداها لدى بعض المسؤولين في السلطة، ناهيك بالتقارير الدولية التي تحذّر الدولة أن الوضع على حافة الانهيار وعن قرب موعد الكارثة. ففي تقرير للأمم المتحدة ذكر أنّ النمو الاقتصاد اللبناني بلغ حوالى 0.9%، وأنّ نسبة التضخُّم بلغت 4.3 % في العام 2018. وتشير البيانات المالية أنّ الدين العام حالياً تخطّى الـ 85 مليار دولار، وأن خدمة الدين العام بلغت حالياً 6 مليارات دولار، وبذلك ارتفعت خدمة الدين نسبة إلى إيرادات الخزينة من 49% في 2018 إلى 52% في 2019. ووصلت نسبة عجز الموازنة إلى الناتج المحلي إلى حدود 10%. وفي بعض التقديرات ترجّح أن العجز التجاري وصل حالياً إلى حوالى 17 مليار دولار بعد أن تخطى 14.4 مليار دولار في العام الماضي.

هل إصلاحات مؤتمر "سيدر" بداية الصدمة؟

في نيسان 2019 أقيم في فرنسا مؤتمراً دولياً لدعم لبنان شارك فيه نحو 40 دولة وعشر منظمات دولية. قدّم لبنان خطة اقتصادية تسمى "البرنامج الاستثماري الوطني للبنية التحتية" تضمنت مشاريع في 8 قطاعات وهي: المواصلات، والريّ والمياه، والصرف الصحي، والكهرباء، والاتصالات، والنفايات الصلبة، والتراث الثقافي، والمناطق الصناعية. وتبلغ قيمتها نحو 23 مليار دولار تنفّذ على 3 دورات، تشكّل كل دورة 4 سنوات. تقدّر قيمة الدورة الأولى نحو 11 ملياراً والثانية 6.5 والثالثة 5.5 مليارات دولار. وقد تعهّد المانحون الالتزام بالمرحلة الأولى فقط، بشرط أن تلتزم الحكومة اللبنانية تنفيذ عدد من الإصلاحات. المؤتمر جمع 10,2 مليارات دولار كقروض ميسرة و860 مليون دولار كمنح، أي إن القروض تشكل نحو 92.22%، يعني مزيداً من الديون والعجوزات المالية. ومن الإصلاحات المطلوبة لتنفيذ مقررات "سيدر": خفض الإنفاق بنسبة 5%، ووقف التوظيف العام، وإعادة النظر بنظام التقاعد لموظفي القطاع العام، وزيادة الإيرادات بالنسبة نفسها لخفض الإنفاق عبر تحسين التحصيل الضريبي وفرض إجراءات ضريبية جديدة (منها زيادة الضريبة على القيمة المضافة والضرائب على المحروقات)، وتعديل النظام الجمركي بما يؤمن سهولة أكبر لدخول وخروج السلع من لبنان، فضلاً عن الاعتماد على التحكيم الدولي، وتوقيع مراسيم الخصخصة والشراكات مع القطاع الخاص، وتحديث قانون المشتريات العامّة، وتحرير الاتصالات وتسهيل عمليات استثمار القطاع الخاص في هذا القطاع.

إن المتفحص الدقيق لهذا البرنامج الاستثماري ومندرجاته يلاحظ أنه لم يتضمن أي مشروع له علاقة بالشأن الاجتماعي والصحي والتربوي. بل إن الإصلاحات جميعها يتحمل عبئها الطبقة الفقيرة من خصم لسلسلة الرتب إلى TVA إلى خفض النفقات الاجتماعية وغيرها من التدابير، والتي يقوم العديد من المسؤولين بالتصريح عنها، وبأنها ستكون قاسية وموجعة، ناهيك باضمحلال دور القطاع العام الاقتصادي والاجتماعي والتنموي وهيمنة القطاع الخاص على مرافق حيوية في الدولة. وكل المؤشرات والوقائع تدلّ على تسليم القطاع العام إلى الرأسمالية المتوحشة تحت عناوين برّاقة "الشراكة بين القطاع العام والقطاع الخاص" و"الخصخصة". فهل نحن مقبلون على المعالجة بالصدمة عبر انهيار نقدي تعقبه كوارث اقتصادية واجتماعية ظهرت ملامحها في الهجوم على حاكم مصرف لبنان لما يمثّله من ضمانة شخصية للنقد اللبناني؟؟ وهل بنتيجة هذه الصدمة سيتقبل اللبنانيون أي حلول للمعالجة وفي مقدمتها توطين السوريين والفلسطينيين وتالياً إبعاد شبح الإسلاموفوبيا عن أوروبا؟؟ وهل ستحلّ رأسمالية الكوارث محل الدولة اللبنانية فيزداد الفقر والتفاوت الاجتماعي؟ أم إن المجتمع الدولي حريص على الإبقاء على الصيغة اللبنانية المتفردة في المنطقة والمحافظة على الأقليات فيه؟

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم