الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

إبليس والأنخاب

جورج موسى
جورج موسى
A+ A-

هي السيجارة رقم ٢٧ منذ ٣ ساعات. يكاد يشعر بالاختناق. ومع ذلك لا يستطيع التوقف عن هذه الحركة الروتينية، التي تخفف (وهي فعلياً تزيد) قليلاً من إعصار يضرب أمعاءه، ثم يقفز سريعاً إلى منطقة القلب... فتتسارع الدقّات. ليست المرة الأولى التي تعتريه فيها "نوبة" مماثلة. ولن تكون الأخيرة. الكارثة أننا لم نعد نشعر بوطأة الكارثة. أصبح الموت أمراً عادياً. قد يعترينا الذهول. نذرف الدموع. نحزن... في أحسن الأحوال تستمرّ الحالة ليومين. ثم ننسى.


ننسى حتى تقع الفاجعة (مجدداً)، فنستعيد شعور الاختناق نفسه، ونحزن... ثم ننسى. في الواقع، ننسى أن التنفّس لا يعني بالضرورة أننا فعلاً أحياء، وأن الأيام التي نعيشها، هي مجرّد ساعات، وليست حياة. وننسى أن قطعة الأرض التي نعيش عليها ليست وطناً.
انظروا حولكم. حدّقوا في الوجوه. حاولوا التركيز في العيون. يا إلهي، ألسنا جثثاً تسير من دون هدف أو جدوى!
* * *
"في داخلي حزن، يلفّ العالم كلّه". دوّنها أمامه على الورقة. شعر للحظات أن القنوط الذي يتملّكه بات مملاً. ولكن كيف يمكنه أن يخرج من الحالة، فيما الموت العشوائي يحكم قبضته على يومياتنا. لو كانت حرباً، لربما كان الوضع أرحم. في الحرب، ثمّة جبهات ومتاريس وخنادق وملاجئ... أما اليوم، فإبليس يغتالنا بأخبث الطرق، وأكثرها فتكاً وإيلاماً. الكارثة أننا لم نعد نشعر بوطأة الكارثة. والكارثة الأكبر أن إبليس يعيش بيننا، في وسطنا. نراه يمشي بالقرب منّا. يركن سيارته على جانب الطريق أو في الخلف. يسرق أحلامنا، أولادنا، حياتنا. يأخذ استراحة قصيرة، ويترك شياطينه الصغيرة تعبث في المكان إلى حين عودته مجدداً.
* * *
في لحظات مماثلة، يصعب عليك أن تكتب عن الأمل. في جولة على أفكار دوّنتها على الورق خلال السنة التي تنتهي هذا المساء... تجد أنك سألتَ مراراً عن الذاكرة وصعوبة تطهيرها من مشاهد الدم التي تُزرع وتتكدّس. سألت عن أهالي ضحايا عانوا في العلن أو بقي أنينهم في الظل. خشيت من الغد، من خطورة الغد، من الأصوات المسعورة التي ترقص على الدماء لترسم سوداوية الغد... ورغم ذلك، كنت تُنهي حديثك بشيء من الأمل. أما اليوم، فالوصول إلى الكلمات الإيجابية أشبه بمهمة مستحيلة.
* * *
ترى هل يمكن القُبل أن تخفف من حدّة القلق وتخفض منسوب التوتّر؟ إذا كانت الإجابة نعم، فأنا منذ الآن، سأحضن كل من سأصادفه أمامي. سأطبع قبلة على جبين من يحبّني ومن لا يحبّني... من يعرفني ومن لا يعرفني. سأطبع قبلة على جبين كل الخائفين مثلي. مُتنا من الصقيع يا أخي، نريد بعض الدفء.
* * *
هي السيجارة الثلاثين التي يطفئها عند الساعة ١٢ منتصف الليل. في هذه اللحظات، جرت العادة أن يحتفي الناس برأس السنة. حقاً؟ في بلد يخيم عليه شبح الموت، وفي أيام تشبه بعضها البعض بسوادها... ما همّني إذا كنت أعيش في رأس السنة أو في وسطها أو وصلتُ إلى قدميها؟
كلا، سيهمّني ذلك حين أستعيد كل الصور القاتمة التي مرّت في ٢٠١٣... سأتذكّر صور الضحايا... سأشحذ قوة وطاقة من أناس مثلي... يصارعون يومياً للإستمرار... سأبحث عن صور تلامذة يتوجهون كل صباح إلى المدرسة. سأقف في وجه إبليس وشياطينه... سألملم بقايا أحلامي، سأرممّها... وأشرب نخب ٢٠١٤!


[email protected]
Twitter: @moussa_georges

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم