السبت - 20 نيسان 2024

إعلان

أنييس فاردا يوم التقيناها صيف 2014

المصدر: "النهار"
أنييس فاردا يوم التقيناها صيف 2014
أنييس فاردا يوم التقيناها صيف 2014
A+ A-

رحلت السينمائية الفرنسية أنييس فاردا (1928-2019)، رائدة “الموجة الجديدة”، تاركةً خلفها ارثاً لن يندثر مع مرور الزمن. في آب من العام 2014، حاورتها “النهار” خلال وجودها في مدينة لوكارنو (سويسرا)، حيث تم تكريمها بجائزة الـ”فهد الذهب” عن مجمل مسيرتها التي امتدت لأكثر من 60 سنة. نعيد نشر هذا الحوار تعميماً للفائدة في مناسبه رحيلها.

• مَن الذي أطلق عليكم، انتِ وآلان رينه وكريس ماركر، تسمية جماعة "ضفة اليسار"؟

ـــ تسمية "موجة جديدة" ظهرت بعد سنوات من بدئنا بالعمل. فرنسواز جيرو هي التي ابتكرت هذه الكلمة. لا مانع عندي، لأننا كنا فعلاً موجة جديدة. لم نكن فريقاً واحداً مثلما يحلو لبعضهم تصويرنا. طبعاً، كانت هناك شلة "دفاتر السينما"، ولكن بعضنا كان مستقلاً عن بعضنا الآخر. الناقد السينمائي ريتشارد راود الذي كان يدير مهرجان لندن السينمائي، قرر ان آلان رينه وكريس ماركر، جاك دومي وأنا، من جماعة "ضفّة اليسار"، والسبب اننا كنا فعلاً مقيمين على الضفة اليسرى لنهر السين، كما اننا كنا من ذوي الميول اليسارية، علماً ان شلة "الدفاتر" لم تكن يمينية بوضوح. لم نختر يوماً تسمية "ضفة اليسار" ولم نكن عصابة. لم نجتمع قط. كنا نلتقي لنتناقش، ولكننا لم نضع خطة مسبقة لأحاديثنا. أشياء كثيرة كُتبت عنا، لكن الحقيقة ان كلاً منا كان يعمل بمعزل عن الآخر.

• ألا تزالين يسارية؟

ـــ لا أزال يسارية ونسوية. هذا أكيد. لا أحبّ أن أكون السيدة الوحيدة في "الموجة الجديدة". لا ارتاح الى هذا الوصف. في هاتيك المرحلة، لم يكن هناك وعيٌ كافٍ، ولكن اليوم هناك العديد من المخرجات في فرنسا، ولسن فقط مخرجات بارعات، بل ايضاً مصوّرات ومنتجات وكاتبات سيناريو. وبعضهن ينجحن في استقطاب الجماهير وادخال الأموال. وهذا شيء محبب. النجاح الجماهيري هو كما يبدو اليوم، السبب الوحيد الذي يجعل الآخرين يحترمونك. هناك على الأقل 40 مخرجة فرنسية يجنين الأموال بفضل الأفلام. تشمل هذه اللائحة الممثلة التي عملتُ معها؛ انها بلجيكية اضطلعت بدور في فيلمي "بلا سقف أو قانون". يولاند مورو. هي ايضاً مخرجة مهمة انجزت فيلماً اسمه "عندما يرتفع البحر".

• لا تزال ذاكرتك نشيطة جداً، تتذكرين كلّ شيء...

ـــ لديّ مشكلتان: الأسماء، وتذكر اشخاص سبق أن ألتقيتهم. هذا كله بسبب تقدمي الرهيب في السن. أشعر بأنني محظوظة لأن الكثير من الأشياء الايجابية تطرق بابي وانا في مثل هذه السن المتقدمة. أخيراً، اقمتُ معارض عدة. بالقرب من مرسيليا، هناك جزيرة فيها قلعة اسمها ايف، حيث سُجن الكونت مونتي كريستو. قدمتُ فيها معرضاً. 150 ألف شخص يتوافدون سنوياً الى تلك القلعة لزيارة سجن مونتي كريستو. هذه المرة، كان بامكانهم أن يشاهدوا تجهيزاً خاصاً بي، بمجرد شرائهم بطاقة للسجن المتحف. اقترحتُ مقاربة أخرى لاحتلال المكان. قبل سنتين، قدمتُ معرضاً في الصين، واستُقبِلتُ استقبالاً مهيباً. ليس المردود المالي ما يهمني من هذا كله، بل رغبتي في المحافظة على فضولي واستمراريتي ونشاطي. غمرني الفرح عندما استضافوني في بينالي البندقية 2013. آنذاك، قلتُ لنفسي انني سأجرب مجالاً جديداً لبعض الوقت.

• ما أهمية الحرية عندك؟ أتحدث عن حرية الابتكار والخلق. بعضهم يبرع تحت الضغط والقيود...

ـــ جداً. طبعاً، دائماً هناك قيود مفروضة عليك. لكن الحرية عندي هي الا ألهث خلف المال والنجاح. الحرية هي احياناً الا أربح شيئاً وان أقول في ذاتي "انا حرة"!

• هل تجدين صعوبة في تمويل أفلامك؟

ـــ بالتأكيد. كل فيلم جديد لي مجازفة جديدة ومسار طويل لايجاد تمويل. حتى بعد "بلا سقف أو قانون" الذي يُعتبر أكثر فيلم لي نجح جماهيرياً. حقق أكثر من مليون مشاهد في الصالات الفرنسية. فجأة، أعتقدتُ انني في القمة. الفيلم التالي كان تمويله سهلاً نسبياً. لكن، ما ان سقطتُ حتى وجدتُ نفسي حيث كنت دائماً، ومنذ ذلك الوقت انا هناك. "شواطئ انييس" لم احصل على موازنة كاملة لتمويله، فكان عليّ ان أتدبر اموري.

• تقنياً، لم تتوقفي عن مواكبة التطور، فانتقلتِ من مرحلة تقنية الى أخرى بلا مشكلة...

ـــ نحن السينمائيين، لدينا ادوات وعلينا استخدامها لا بل تطويرها. احياناً، رغبتي في تصوير موضوع معيّن حملتني الى الاهتمام بتقنيات جديدة. فعندما قررتُ انجاز وثائقي عن اشخاص يعيشون في ظروف اقتصادية سيئة ويبحثون عن بقايا الطعام من النفايات، لجأتُ الى المعدات الخفيفة. الكاميرا ذات الحجم الصغير اتاحت لي أن أخلق ألفة ووداً بيني وبين الشخصيات التي اردتُ تصويرها. هذه كانت وسيلتي للتقرب من الشخصيات، بمن دون فريق تقني متعدد الافراد يكون عائقاً بيني وبين الشخص الذي اصوّره. هذا تطور طبيعي عندما تعمل في السينما.

• يقال انك منبهرة بالسينما كنتاج كيميائي...

ـــ السينما عمل تقني أولاً وأخيراً. اليوم، علينا أن ننسخ كل الأفلام القديمة على انظمة جديدة تطيل من عمرها وتجعلها حيّة في الذاكرة. الا اذا تنازلنا عن حق الأجيال القادمة في مشاهدة أفلام مثل "مظلات شربور". علينا نقل كل شيء الى ملف "دي سي بي". المشكلة أننا نعلم ان الاقبال على السينما يتراجع، وكذا بالنسبة للشاشات التي راحت تصغر. أحياناً، احدهم يقول لي: "شاهدتُ فيلمك على هاتفي المحمول". هذا حقه، لكنني، في المقابل، وأنا في هذا العمر، أحاول أن اقنعه أن من الجيد أن يجلس الناس معاً في صالة واحدة لمشاركة تجربة سينمائية واحدة. لستُ نوستالجية إلى زمن غابر. لكني أحب أن أذكّر ببعض اساسيات السينما، مع ادراكي أن التقنيات الحديثة تفتح أبواباً جديدة وتتيح للمخرجين ان يعبروا عن أنفسهم بطريقة اخرى. اليوم، هناك وسيلة تعبير يتشاركها كثيرون؛ أيّ كان يستطيع أن يصوّر ايّ شيء، ومكانة المخرج لم تعد كما كانت في العصور الماضية. مَن هو المخرج اليوم؟ عندما تتابع نشرات الأخبار المتلفزة، تدرك ان الوثيقة الوحيدة صوّرها شخص مجهول الهوية نصادفه في الشارع كل يوم.

• أيزعجك أن يبقى اسمك مرتبطاً بـ"كليو من خمسة الى سبعة"، كونك انجزتِ بعد ذلك الكثير من الأفلام التي توازيه أهمية؟

ـــ انت مَن تقول ذلك. آخرون يذكرون افلاماً اخرى. البعض يأتيني ليقول لي ان "بلا سقف أو قانون" كان صدمة كبيرة في حياته. في المقابل، لا يمكن أن ننكر ان "كليو" أعتُبر واحداً من الأفلام المهمة في تاريخ السينما، كونني قاربتُ مسألة الزمن والجغرافيا بطريقة مختلفة عمّا كان سائداً آنذاك. أما أنا، فأحب ايضاً "جاكو نانت"، حيث لجأتُ الى صيغة خاصة تتكون من صور له ومن الأشياء التي استلهمها، لتصوير سيرة زوجي المخرج جاك دومي. في كل فيلم لي، حاولتُ ان أختبر شيئا ما، لأرى كيف استطيع استخدام السينما ولأرى اذا كان المشاهدون سيقدّرونه ام لا.


(...) الفضول والرغبة في البقاء حراً، هذان سلوكان شخصيان. السينما لا تقتصر على هاتين المسألتين فقط. السينما هي ان تعثر على الشكل المثالي لتروي ما يجول في بالك. هذه هي النقطة الاساسية. ينبغي الا نخطئ لا في الاداة، لا في المقاربة. انجزتُ مسلسلاً صوّرته كله بكاميرا محمولة. وجدتُ ان هذا الشكل الجمالي يناسب الاطروحة. طبعاً، اذا اردتُ ان اقدّم فيلماً عن فنان تشكيلي كبير، سأثبت الكاميرا في أرضها. الحرية هي حرية الفكر وامتلاك الجرأة للخروج على القوانين وعدم سماع ما يقولونه لك. خذ شَعري، أجل شَعري. أسرحه على هذا الشكل مذ كنت في العشرين. تغيّر لونه قليلاً، لكن الشكل هو هو. ما اريد قوله هو انك لست مرغماً على شيء. رفضتُ انجاز الكثير من الأفلام لأنني كنت اجد نفسي غير مستعدة لها او لم يكن الوحي على موعد معي. قابلتُ اوليفر ستون مرة. كان لقاء جميلاً. فوجئتُ عندما قال لي إن لديه خطة عمل للسنوات الخمس المقبلة، يعلم بالضبط ما هي الافلام التي سيصنعها. وهذا ما اتمه، وكانت افلاماً جيدة. لكني قلت في سري: "يا له من مسكين، هو صار مورطاً في برنامجه الخاص".

الأمر اشبه بأن تؤلف مسرحية وتلتزم الدقة الخالصة في طرح حوادثها، ثم تلتزمها اثناء التمثيل. اثناء تصوير "بلا سقف أو قانون"، كنت ادرج تفاصيل جديدة في الفيلم صباح كلّ يوم. من الخامسة الى السادسة، كنت أجلس وأدوّنها على ورقة، اذ لم يكن لي الوقت لأطبعها على الآلة الكاتبة. أحياناً، كنت اكتبها بشكل اوضح. الحرية لا تعني ان تخضع لنفسك وان تكون مطيعاً لها. وايضاً، ليس ان تقول "لديّ سيناريو عليّ ان اتبعه". قد ينجح هذا الاسلوب أو يفشل. السرّ هو ان تلمس ما يدور أمامك وتشعر به بكلّ حواسك. يجب أن تعلم وأنت تصوّر، ما المزاج الطاغي، كيف هي حال الطقس، لأن تبدلاً بسيطاً يؤثر سلباً في الفيلم. هناك ايضاَ العلاقات الانسانية. كلما زادت ثقة الممثلين بك، أعطوك من دواخلهم وأكثر. هذه مهنة مشوّقة، هذا اذا صحّت تسميتها مهنة. انا اعتبرها دعوة بالمعنى الديني للكلمة. اذاً، كل فيلم هو تحدٍّ. ليس بالضرورة لنفسك، انه تحدٍّ نابع من سؤال "هل أتمكن من العثور على الطريقة المثلى لانجازه؟ وهل سيستمع الناس بما أقدمه أو على الأقل ينشأ حوار بينهم وبين الفيلم. في احدى المرات، أخرجتُ فيلماً كوميدياً، "مئة وليلة". كان الفيلم فشلاً ذريعاً في شبّاك التذاكر. اعتقد أن الناس رفضوا أن أقتحم مجال الكوميديا، وكانوا يريدونني ان ابقى في الدراما الاجتماعية. لا بأس، في تفكيري أنني قمت بعمل لطيف.

• هل الخلق يحتاج الى ايقاع حياتي معين، أم انه يأتيك بشكل مفتت فوضوي من دون تخطيط...؟

ـــ طبعاً، كلّ شيء يحدث هكذا، والا لكنت اعتزلتُ. سابقاً، كنت في صحّة جيدة. كنت انهض وأقول: "يا له من يوم جميل". اليوم، احتاج الى ساعة على الأقل كي استعد للخروج من البيت. عليّ الاستحمام والاهتمام بحقيبتي، وشدّ ساقيّ. كوني لم أعد المرأة التي كنتها، لم يعد الاستيقاظ من النوم متعة كبيرة. احياناً، لا يوافق مزاجي لمشاهدة فيلم، فأجلس في شرفة منزلي واتفرج على البحيرة التي امامي. يعجبني المشهد لأنه يتحول الى رمادي مع انتشار الضباب حول البحيرة، ثم يبدأ المطر بالتساقط، ثم تعود السماء رمادية، وهكذا. أقول في نفسي ما فائدة مشاهدة فيلم واحد، عندما يكون في تصرفي أفلام عدة.

• اذا الواقع يلهمك أكثر من السينما؟

ـــ آه، طبعاً. السينما لا تشكل عندي مصدر الهام. بدأتُ أشاهد الأفلام عندما بدأتُ أصنعها. اعترف انني لم اشاهد حتى عمر الخامسة عشرة الا عدداً قليلاً من الأفلام. ربما خمسة. والداي لم يصطحباني الى السينما في طفولتي. شاهدتُ فقط "بياض الثلج" عندما خرج الى الصالات. لم أذهب الى معهد السينما ولم اعمل يوماً مساعدة مخرج. في فيلمي الأول، أخترتُ الممثلة سيلفيا مونفور لأنها كانت تذكّرني ببيارو ديللا فرانتشيسكا. لم تكن المعايير التي استند إليها لاختيار الممثل هي نفسها المتعبة من قبل الآخرين. لم أكن اعرف شيئاً عن حجم الكادرات في تلك المرحلة.

دخلتُ السينما فجأة. التقي احياناً بشباب في الحادية والعشرين يكونون قد شاهدوا مئتي الف فيلم، بما فيها أفلامي. انه لشيء مبهر. السينيفيلية موجودة منذ زمن بعيد لكنني لم أكن يوماً سينيفيلية. كنت مهتمة بالرسم، أطالع كثيراً وأنجز صوراً فوتوغرافية عن المسرح. لم أكن أعرف شيئاً عن السينما. عندما التقيتُ ألان رينه، كان يعمل في المونتاج. تعلمتُ منه النزاهة والمناقبية في العمل. كان يمنتج الفيلم على نحو يكون أقرب من روحية المشروع. ربما، لو شاهدتُ التحف السينمائية التي كنا نسمع عنها، لما انجزتُ ايّ فيلم. كنت لأقول في نفسي: الأفضل ان اعمل في مجال آخر. في تلك المرحلة، كانت ايطاليا البلد الأكثر حضوراً في وجداننا. انطونيوني، فيسكونتي، وفيلليني الذي عشقته. لم تكن البلدان التي تنتج الأفلام كثيرة. الآن، هناك 60 بلداً منتجة للسينما. ألمانيا لم تكن قد هبّت مجدداً، ولا انكلترا. كان يأتينا فيلمان او ثلاثة من اليابان. لهذا السبب، كنا مشهورين جداً في العالم. كنّا أباطرة. حتى الآن، عندما اذهب الى اليابان والصين، يحادثني الناس باعتباري من "الموجة الجديدة".

* رهيبة اطلالتك في "شواطئ أنييس"...

ـــ عندما تنجز فيلماً وثائقياً تكون في خدمة الموضوع الذي تتناوله. ولكن دائماً اسمح لنفسي بأن أكون جزءاً من الفيلم، واقحم نفسي فيه. في "بلا سقف أو قانون"، أردتُ أن أعطي الفيلم نسيج الوثائقي. هذا لا يعني انه كان وثائقياً، لأن كلّ شيء معدّ سلفاً. لا شيء يجعلني أنتشي أكثر من أن أرى المُشاهد يستمتع بما أُريه. هل تتذكر في "بلا سقف أو قانون"، المشهد عندما تفتح ساندرين بونير علبة السردين لتأكل؟ بعض المشاهدين قالوا لي إنهم شعروا بالزيت على أصابعهم. كم جميلة الطريقة التي كانت تأكل فيها، جميلة وحقيرة.

(...) عائلتي لم تكن ترتاد السينما كثيراً. ثم جاءت الحرب العالمية الثانية وصارت المسألة أصعب ولم يكن لدينا المال. كنا نعيش في فقر مدقع، نتقاسم منزلاً صغيراً ونتناول الحساء معاً. لم يكن في مقدورنا الذهاب الى المطعم. والآن، انظر كيف يعاملونني في هذا المهرجان: لديّ غرفة واسعة مع شرفة مطلّة على البحيرة. هناك كثيرون يستحقون هذا التقدير ولا ينالونه.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم