الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

لا صداقة سهلة بين القلم والواقع

المصدر: "النهار"
غسان صليبي
لا صداقة سهلة بين القلم والواقع
لا صداقة سهلة بين القلم والواقع
A+ A-

يولد القلم ويعيش بساق واحدة.

ربما لهذا السبب تجده في كتاباته، تارة يختصر لك الطريق الذي يؤدي إلى مبتغاك، وتارة أخرى يوضح لك مبتغاك، لكنه يتفادى تحديد الطريق الذي يؤدي اليه، بخاصة إذا كان مبتغاك بعيد المنال.

عكازات القلم هي الأنامل، فهو يثق بها لأنها محبّة وشجاعة.

محبة، فهي تداعب وتشبك الايادي وتعزف الموسيقى.

وشجاعة، فهي من يجرؤ على وقف نزيف الجرح، من خلال وضع الإصبع عليه مباشرة.

يثق القلم بالأنامل إلى درجة أنّه عندما يتنحى بضغط من التكنولوجيا، يطلب منها أن تنوب عنه في الكتابة على الكومبيوتر أو على الهاتف الذكي.

في واقع الحال لا يحتاج القلم إلى ساقين ليمشي، فهو يمشي على رأسه.

لذلك تراه يرسم لك الدنيا بالمقلوب، أي من تحت إلى فوق.

بعض الأقلام وهي تنظر من تحت إلى فوق، لا تتكلم إلا عن فوق، أي عن الفضاء وما فيه.

فيقولون عنها انها تعيش في الاحلام او في الماورائيات وليس في الواقع.

بعض الأقلام الأخرى وهي تنظر أيضا من تحت إلى فوق، لا تتكلم الا عن تحت، أي عن الجذور والأسباب التي تفسر ما يجري فوق الارض.

فيقولون عنها إنّها تغوص كثيرا في التحليل وتعقّده حتى لا يعود في الإمكان معرفة علاقة ما تتوصّل اليه في الواقع.

هذه العلاقة المزدوجة والثابتة بين القلم والجذور من جهة، وبينه وبين الفضاء من جهة ثانية، ربما يكون قد ورثها عن أمّه الأصلية أي الشجرة، التي تغرس جذعها عميقا في الأرض وتطلق العنان لأغصانها نحو الفضاء.

لا صداقة سهلة بين القلم والواقع.

فالقلم يريد أحيانا تفكيك الواقع، وأحيانا أخرى يريد تغييره، هذا إذا لم يستخف به كليا ويلجأ إلى الخيال.

والواقع يغار من القلم.

فباستطاعة القلم أن يمحو أو أن يشطب بثوانٍ ما كتبه بأيام أو بأشهر. في حين أنّ الواقع يحتاج إلى عقود ليهدم ما رسخته سنوات قليلة من التربية، أو عهود معدودة من الاستبداد.

وإذا ما قرر القلم، وتحت الضغط، أن يكون واقعياً، أرهقته التعريفات والمقاربات والمنهجيات العلمية.

لذلك هو يرتاح أكثر إلى الرسم والشعر والأدب والمسرح والسينما، وهي جميعا تحاكي الواقع، لكنها تتفلت من القيود المنهجية في التعامل معه.

لقد تربّى القلم على الحرية، فهو الذي عاشر العصافير عندما كان جزءاً من شجرة.

لا يحب الشروط، ويفضل دائماً أن يكتب على ورقة بيضاء، فسيحة وخالية من كل ما يمكن ان يعوق عبثه وشيطناته.

فشغف القلم أن يكتب ما يشاء، وهو يقاوم باستمرار نزعة صاحبه للرقابة الذاتية.

عندما يجري التأريخ لنشأة الكتابة، يقال انها "اخترعت" لتبادل المعلومات وتوثيق التاريخ وتدوين القوانين وتسهيل التبادل التجاري وحفظ الحسابات المالية.

افترض أيضاً أنه جرى ابتكار الكتابة لتلبية حاجة الانسان في محاورة نفسه.

بحيث ينقل ما في داخله الى الخارج ويضعه أمامه على الورق ويحاوره بصمت مستعيناً ببصيرة العينين، هي التي تؤمن التواصل الدائم بين الداخل والخارج.

عندما نسمع أحدهم يتكلّم مع نفسه على صوت عال، نقول أنه مجنون.

عندما يتكلم أحدهم مع نفسه وهو يكتب، نقول عنه إنّه كاتب أو شاعر أو باحث أو فيلسوف.

لا شك لدي بأنّ حاملي القلم يحملون هم أيضاً شيئاً من الجنون.

اقرأ للكاتب أيضاً: عاري الرأس تحت مطر غيمة سوداء

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم