الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

مقطع من رواية "هكذا تكلّمت ناهد" - سيرة امرأة من نار

عادل شريفي - سوريا
مقطع من رواية "هكذا تكلّمت ناهد" - سيرة امرأة من نار
مقطع من رواية "هكذا تكلّمت ناهد" - سيرة امرأة من نار
A+ A-

آلهة المدائن

من أقصى الخاصرة الشّرقيّة لبلاد العرب، حيث تنحدر الأنساب والعشائر، ملتقى النّهرين المقدّسين. هناك طاب لحمورابي أن يتلقّى شريعته الأولى، وزحف نبوخذ نصّر إلى الهياكل المزعومة ليصرّمها، ولخاطر عيونها ترك أنوشروان أرض أجداده المتراميّة الأطراف ليستوطن المدائن، ولا زالت صرخة الفجر يُسمع صداها من يوم ترك عليّ بن أبي طالب(ع) محرابه مضرجاً بنجيع الحقيقة. ولا زالت الدروب فيها حمراء بعد أن نُحرتْ كباش الله في كربلاء، فتوّزع الدّم على أصقاع الكون حارّاً لا يبرد. هناك جلس الرّشيد مرّة يلقّن الغيوم خارطة الهطول، من بعده كرّت سبحة الويلات، إلى أن جاء ذلك اليوم العبوس الذي تربّع فيه صنم على الكرسي! حجر أصمّ أضحى بحكم سطوته يضرّ وينفع. متوحّد لا يعرف الرّحمة، جبّار، متحكّم، له أسماء فاقت أسماء جميع الآلهة عدداً وصفاتٍ، له الأمر في البلد، والوالد وما ولد، كلٌّ له خاضعون، يبجّلون، يحاربون، يُقتلون ويُسجنون بصمت، والكون عنهم غافل، النّاس في العراق خشيت من الأحلام، لأنّه وضع الجواسيس عليها، فسهروا كي لا يناموا، فويل لمن ينام وتكون لديه القدرة على الأحلام، ويل لمن يحلم بغد بلا صنم.

جرير ابن الدكتور نوّاف العامري، أستاذ الفيزياء النّوويّة في جامعة بغداد خرّيج بريطانيا. د. نوّاف الذي أُقصي عن برنامج العراق النّووي بسبب مزحة أطلقها على عيد ميلاد صدّام، حين قال ممازحاً: "عيد إله الخصب"، متناسياً طبيعة الحكام التي هي دائماً ليست في مزاج جيّد لتقبّل النكتة. مجرّد مزحة، لم تكن أبداً إعلاناً ثورياً، ولم تكن ترقى لمستوى تهديد سلطة الحاكم المطلقة، أو الحدّ منها. هي كلمة خرجت، وليس هناك مجال لعودتها. سُجن بسبب ظُرفه لمدّة شهرين، ذاق فيها ألوان العذاب والهوان، من وقتها نُسّق كعالم نووي، وابتعد الكلّ عنه.

في منطقة المنصور الرّاقية والعريقة، شارع الأميرات، تشرّب جرير حبّ العراق مع ماء الفرات العذب. بطبع حار، يشبه إلى حد كبير حرارة بلده الذي هرب منه لاجئاً مع أسرته، وهو في سنّ الثّامنة عشرة.

مع النّزعة الديكتاتوريّة لحاكم البلد لا ينفع تاريخ علمي ووطني طويل، فللدكتور نوّاف ذنْبان لا ثالث لهما. رغم أنّه كان من الهيئة الطّلابية لحزب البعث في لندن نهاية الخمسينيات، خاض بعدها درباً نضالياً طويلاً جمعه بقيادات البعث الأولى، التي أقصاها صدّام فيما بعد بطريقة وحشيّة لم يشهد التّاريخ لها مثيلاً.

ذاك الأوّل على دفعته في الفيزياء النّوويّة آثر أن يعود إلى بغداد، ليكرّس أبحاثه في خدمة برنامج العراق النّووي، ضارباً عرض الحائط بكلّ المغريات التي قدّمتها له حكومة جلالة الملكة للإقامة والتّجنّس في بريطانيا العظمى. المغريات التي وصلت إلى حدّ التّهديد، ما حدا به إلى التسلل خارج المملكة بمساعدة السّفارة العراقيّة في لندن، هو وزوجته الجميلة د. حنان الحطلي، الاختصاصية بعلم الأحياء الدّقيقة. كانت المرّة الأولى التي يتسلل فيها جرير، الجنين ذو الأشهر الستّة في بطن أمّه، خارج ما كان يعتبر بحسب الموقع، موطناً له.

لم ينتظر د. نواف مولد ابنه، بل حرمه من فرصة الحصول على جواز سفر بريطاني، ربّما يكون له بمثابة بطاقة السعادة في شرقنا البائس. هذا هو الذنب الأول للدكتور نوّاف، انتماؤه الوطني، وحبّه لبلده العراق.

- وماهو ذنبه الثاني؟!

- اصبرْ قليلاً يا أستاذ نائل. ستعرف كلّ شيء.

- آسف. تفضّلي، أكملي.

كميّة الخوف التي أشاعها النّظام في المجتمع، كانت كافية لقتل الرّوح المجتمعيّة بين أهل البلد والحي والمهنة. الكلّ مخبرون. من قال مذنب، ومن سكت مذنب، ومن تستّر مذنب، الكلّ مذنب حين يتعرّض مقام الحاكم للمسّ، ستة تقارير أمنيّة كُتبت بالدكتور نوّاف، مع أنّه أطلق نكتته أمام اثنين فقط من أخلص رفاقه.

في غضون أيّام جاءت برقيّة إلى فرع المخابرات الحربيّة في الحازميّة، لاعتقال د. نواف العامري، دون أن يكون له أيّ حصانة كعالِم، أو كثروةٍ وطنيّة. تمّ اعتقاله مثل أي مجرم آخر، ليلة لن ينسى جرير ذو الثمانية عشرة ربيعاً رعبها طيلة حياته.

شهران من التحقيق المترافق بشتّى أنواع التّعذيب اللابشري والإذلال البهيمي، انتهت بوساطة الرّفيقة هدى عمّاش، عضو القيادة القطريّة في حزب البعث العراقي، بعد أن أعطتها صديقتها القديمة د. حنان مبلغاً مهولاً من الدّنانير العراقيّة. يومها زارت الدكتورة حنان، بناءً على طلب الرّفيقة هدى، اللواء مجيد، أسطورة السّطوة المخابراتيّة، في مكتبه في إدارة المخابرات الحربية، من أجل إتمام معاملات لفلفة الموضوع، والإفراج عن الدكتور نوّاف، فكان ذنب نوّاف الثاني.

- وما هو ذنبه الثالث؟

- مهلك يا أستاذ نائل

- عفواً. تفضلي أكملي

بعد إخلاء سبيل زوجها بأسبوع، تلقّت د. حنان اتّصالاً غريباً في الجامعة: "ألو نعم".

ـ "شلونها الدكتورة حنان؟ أجمل ما خلق الله في العراق. لا والله بالعالم العربي كلّه".

كانت دفقة الحماس التي تلقّتها في المكالمة كفيلة بربط لسانها للحظات، إلى أن عاودت الكلام بعد عودة المحاكمات العقلية: "اممم... اعذرني بس منهو المعي؟"

ـ "حقج يا كومر تنسى".

تزايدت حيرتها أكثر، فهذه أوّل مرّة تتلقى فيها الدكتورة المحافِظة، مثل هذا الاتصال الغريب، الصّوت مألوف، لكنّه مرتبط حتماً بمأساة ما، بدليل أنّ عقلها الباطن انكمش لمجرّد سماعه، إنّما لم تستطع التّعرّف عليه. عاودت الطّلب إليه أن يفصح عن نفسه، فأجاب:

"أنا اللواء مجيد"... تيبّست على الفور البراعم النّديّة في تربة أبجديّتها، إذ يكفي أن تذكر هذا الاسم في حقل ذرة حتّى يحترق بالكامل، يكفي أن تهمس به في أذن أشدّ الرّجال بأساً حتّى يعود طفلاً بحاجة للرّعاية، يكفي أن يطرق بال أحدهم حتّى يصاب برهاب الاضطهاد، لكّنها تمالكت نفسها في النّهاية، وقالت:

"أأأ... أهلا سس... سيادة اللواء".

"شبيك؟ لا تخافين، أني أريد أتطمن عليج".

"مشكور سيادة اللواء.. ترى والله ما كصّرت".

كان وقحاً جداً في طلبه مقابلتها في إحدى الفيلاّت التي يمارس فيها مجونه الثّوري على شاطئ دجلة. ماذا تجيبه؟ إنّه اللواء مجيد، الآمر النّاهي في مملكة هُبل. تحججت بأشياء تافهة خطرت على بالها.

"خذي وقتج يا كومر، لكن ما تطولين علي ترى آني ما أحبّ الدّلال هه".

لم يطل الأمر حتّى بدأ يحاصرها، يتحرّش بها على الهاتف، يرعبها بزبانيته الذين باتوا يترصّدونها أمام البيت، على طريق الجامعة، في كلّ مكان. تكرر صدّها له إلى الحدّ الذي أثار أعشاش الدّبابير في مخّه المحشوّ باستبداد السّلطة. خافت على نفسها، على أولادها الفتيان وزوجها الذي أضحى عرضة لأيّ تهمة جديدة، بعدما أدّى توقيفه السّابق إلى تصنيفه في خانة العناصر الغوغائيّة في البلد، هذه التّهمة التي تؤدي بصاحبها إلى الاختفاء نهائيّاً من المجتمع العراقي المناضل المسبّح بحبّ قائده الفذّ.

اللواء مجيد هو أحد أركان نظام الديكتاتور الأكثر جبروتاً في العالم، ويحقّ له أن يفعل في مزرعة سيّده ما يشاء، بعد أن وزّع سطوته وجبروته عليهم. في الحقيقة، إنّ جميع هؤلاء الديكتاتوريين ظهروا على حقيقتهم المهيضة بلا أوراق توت في اللحظة التي تخلّى فيها عنهم أشباه هؤلاء، فتبين للعيان أنّ لا أحد لديه تلك الكاريزما العجيبة التي تمكّنه من قيادة الشّعوب كالأغنام، إنّما في لحظة ضعف تاريخيّة، يظهر المئات، بل الآلاف من أشباه مجيد ليمكّنوا هذا الديكتاتور، أو ذاك، من رقاب العباد. بالتالي فهم يريدون أجرهم مقابل ذلك، تجاوزات للقانون، سطوة، ظلم، قهر، استبداد.

بعد أن تحوّلت حياة الأسرة إلى جحيم لا يطاق، قرر د. نوّاف في لحظة مفصليّة إعادة قنوات الاتصال بأصدقائه البريطانيين القدامى. كانت مغامرة خطرة، مصيرها الموت المحتوم، واعتبار أسرة د. نوّاف بالكامل، بمن فيهم أبوه، أخوته، أنسباؤه، من أعداء الشعب المغضوب عليهم، ولكن ما باليد حيلة.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم