الأربعاء - 17 نيسان 2024

إعلان

رضيع امرأتين

المصدر: "النهار"
غسان صليبي
رضيع امرأتين
رضيع امرأتين
A+ A-

اكتشفتُ الأمر أخيراً، أو على الأصحّ أعدت اكتشافه.

لا أعرف لماذا تناسيت الموضوع لسنوات طويلة.

أترك لعلماء النّفس متعة أن يجدوا الأسباب،

فمنذ مدة قصيرة كنت جالساً أنا وصديقي وزوجته في مقهى، وتشعّب حديثنا ليطال أناساً رضعوا من أمّهاتهم ومن امرأة أخرى.

فجأة تذكّرت أني واحد من هؤلاء.

تلقائياً تفتحت عيناي وشعرت بفرحة كبيرة وكأن حدثاً عظيماً قد حصل معي.

نعم لقد رضعت من امرأتين، أمي وجارتها.

كانت أمي قد أخبرتني وأنا لا أزال صغيراً، أنني رضعت من امرأة أخرى بعد أن اضطرّتْ هي لإيقاف إرضاعي بعد بضعة أشهر من ولادتي، لسبب لم أعد أذكره.

أذكر فقط أن هذه المرأة كانت تسكن إلى جانب بيتنا، وكانت من عائلة فقيرة، في حين كنا نحن من عائلة متوسطة الحال. ويبدو أنها كانت ترضع مولودتها، فكان بإمكانها إرضاعي أنا أيضاً. أعتقد بأن أختي بالرضاعة كان اسمها زينة.

بعد إعادة اكتشافي حديثاً أنني رضيع امرأتين، تحمّست كثيراً لمعرفة اسم المرأة الثانية. ولأن أمي متوفّية، ذهبت عند أبي التسعيني طالباً منه النّجدة.

للأسف لم يتذكّر. فذهبت عند خالتي التي كانت دائماً إلى جانب أمي. أكدت لي أنني رضعت من امرأة ثانية، لكنها لم تعد تتذكّر اسمها.

لجأت أخيراً إلى جارتي الحالية، وهي امرأة مسنّة كانت جارتنا منذ طفولتي. هنا أيضاً لا خبر منها يشفي غليلي.

توقّفت عن التفتيش مرحلياً، ورحت أتأمّل المشهد كما يبدو لي اليوم.

أنا طفل صغير أرضع من ثدي امرأة لا أعرفها، لون بشرتها كما رائحة جسدها مختلفان عمّا عهدته عند أمي. هل كانت صدمة لي أم متعة إضافية طالما أن الثدي لم يغادر ولا يزال هنا؟ لا أعرف.

أحب أن أعتقد أن أمي قالت لي في سرّها: لقد أعطيتك حبّاً لا قيداً، وطالما أنك ما زلت بحاجة إلى غذاء ثدي، لا بأس إن تحرّرتَ باكراً من ثديي، وذهبتَ بشغف نحو ثدي امرأة أخرى.

وإذا بي أتناوب على الرضاعة مع طفلة أخرى من ثدي أمها. لعلّي لم أعِ أهمية التناوب هذه عندما كنت طفلاً. لكني أجد فيها الآن تشاركاً رائعاً في تناول الغذاء وتلقّي الحنان.

لا بدّ أنه كان لهذه التجربة في طفولتي تأثير على شخصيتي وعلى علاقتي بالمرأة خصوصاً.

علاقتي بأمي أولاً. فقد طبعتها الاستقلالية رغم الحب والامتنان. ألا يختبئ عتابٌ ما وراء هذه الاستقلالية؟ ربما، لكن الأرجح لا.

علاقتي بالمرأة ثانياً. صداقة وعشق في الوقت نفسه. ألستُ أخلط عشوائياً بين الاثنين؟ أخلط ربما، لكن عشوائياً، لا.

علاقتي بالحبيبة ثالثاً. إلتزام ومرونة في آن واحد. هل هي نعمة أم لعنة الثديين في فترة الرضاعة؟ أشعر بأني أعيشها كنعمة.

علاقتي بالذوق الجنسي رابعاً. لا تمييز عادةً في رغبتي الجنسية بين النساء، بحسب ألوان البشرة وبحسب الطبقات. هل هي رغبة بالمرأة بحد ذاتها أم تطبع رغبتي مع المواصفات المتنوعة للحبيبتين الأوليين؟

********

تصادف كتابتي لهذا النص مع حلول مناسبة عيد الأمّ في 21 آذار وذكرى وفاة أمّي في 29 منه.

أشتري عادةً باقتين من الزهر في عيد الأمّ: واحدة لزوجتي أمّ أولادي، وأخرى لأمّي أضعها أمام صورتها في غرفة الجلوس.

سأشتري باقة ثالثة هذه السنة لأمي بالرضاعة، عربون حب وامتنان. على أمل أن أجدها قريباً، إذا لم تكن قد التحقت بجارتها حيث هي الآن.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم