الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

وسائل التواصل الاجتماعي والقيم واللغة العربيّة

عدنان برجي
وسائل التواصل الاجتماعي والقيم واللغة العربيّة
وسائل التواصل الاجتماعي والقيم واللغة العربيّة
A+ A-

تتغيّر تقنيّات التدوين والكتابة من عصر إلى عصر. اليوم نعيش عصر وسائل التواصل الاجتماعي عبر الهاتف والكمبيوتر وحتى ساعة اليد. إنه عصر الضوء بديلاً عن عصر الحبر. عصر الشاشة بديلاً عن عصر الورق. عصر اللمس بديلاً عن عصر القلم.

إنها الحقيقة العلمية التي لا مفرّ منها.

والتغيير لا يتحقق بيسر وسلاسة بل يفرض نفسه، ويولّد قيماً ومفاهيم جديدة، ولعل الجميع بات يدرك القيم التي رافقت الثورة الصناعية بإيجابياتها وسلبياتها وتأثيراتها على الفرد والأسرة والمجتمع. لكن حتى الآن لم تتضح للجميع القيم والمفاهيم التي ترافق ثورة وسائل التواصل الاجتماعي المذهلة بسرعتها وآفاقها.

لإدراك مدى التأثير الذي تتركه التغييرات أشير إلى ما أرسته السينما والتلفزيون خلال القرن الماضي، وكيف اُستغِلّت هاتان الوسيلتان لفرض مفاهيم معينة على المجتمعات من قبل حكومات استعمارية لها أهدافها وغاياتها. أفلم نصدّق جميعاً من خلال أفلام هوليود أن الهنود الحمر قبائل متخلّفة لا ضير في أن يقضي عليها الكاوبوي الأميركي ويبني على أنقاضها المجتمع الجديد؟

ألا نلاحظ الآن أن غالبية الأفلام الهوليودية التي تعرضها مجموعة "نتفلكس" مثلاً فيها دور مميز "ليهودي" ما يقوم بما يعجز عنه الآخرون؟

بالمقابل، هل لأحدنا أن ينكر أن تقنيات وسائل التواصل الاجتماعي تتيح لكل مواطن الدخول إلى حيث يشاء ليكتسب المعرفة التي يبحث عنها؟ وهل لأحدنا أن ينكر سهولة الاتصال بالآخرين أينما كانوا في العالم وبأقل التكاليف المادية والزمنية؟

إذاً، كيف لنا أن نوفّق بين تحديّات وسائل التواصل الاجتماعي وبين مفاهيمنا وقيمنا وأعرافنا؟

كيف نحمي أنفسنا من مثالب هذه الوسائل ونستفيد من حسناتها؟

أطرح أمامكم بعض الأفكار:

1- التمتع بموهبة الاكتشاف وكيفية الحصول على المعلومة بالسرعة والدقة والموضوعية.

2- الرغبة في التعلّم المستمر وإدراك أن سنوات المدرسة والجامعة ليست أكثر من مفتاح للحياة لكنها ليست الحياة كلها.

3- إدراك أن ليس كل ما يُكتب أو يُذاع، وحتى الصورة والفيديو، هو صحيح وحقيقي.

وحده القرآن الكريم مُنزّل وكل ما عداه قابل للمناقشة والقبول والرفض.

4- إدراك أن الغزو الثقافي أصبح أكثر سهولة على الساعين إليه، وهم كل الأعداء من استعماريين وصهاينة وأصحاب مصالح خبيثة وهدامة. وهؤلاء يتوجهون إلينا لاستهلاك ثقافتهم كما نستهلك موادهم وغذاءهم وأدواتهم. لقد عجزنا بفضل حكامنا ونتيجة تمزقنا، عن توفير الأمن السياسي والاجتماعي والإقتصادي، ويريدون لنا أن نفقد قدرتنا على توفير الأمن الثقافي، وأنتم تعلمون أن الثقافة هي العنصر الأخير في خط الدفاع عن الأمة والوطن والمجتمع.

5- إن التقنيات الحديثة أوجدت هوّة بين جيلين: جيل الورق وجيل الوسائل الالكترونية. هذه الهوّة تزيد من الافتراق الطبيعي في المفاهيم والموروثات بين جيل الآباء وجيل الأبناء. وهنا يأتي دور كل فريق بفهم الآخر. فلا جيل الورق جيل "متخلّف"، ولا جيل الوسائل الالكترونية جيل "حضاري". إنهما جيلان من طينة اجتماعية واحدة وأبناء حضارة واحدة. لكن النظرة إلى الامور مختلفة. والجيلان متباينان في الأساس. جيل الآباء يتطلّع غالباً إلى الماضي، فهو الصفحة المليئة في حياته. وجيل الشباب يتطلع إلى المستقبل الذي هو صفحة بيضاء أمامه. هذه الصفحة يريد، أو يظن على الاقل، أنه يستطيع كتابتها كما يشاء. فكيف الحال وقد أضيف إلى التباين العادي والطبيعي، الإختلاف في وسائل التعبير ووسائل الحصول على المعلومات. الحلّ يكون بأن يفهم الجيلُ الجديد الجيلَ الذي سبقه، وأن يأخذ عنه القيم التي قام عليها المجتمع دون تزمّت أو تطرّف أو غلوّ.

6- الحفاظ على الخصوصيات الثقافية التي هي مصدر غنى للمجتمع وللبشرية. يقول المهاتما غاندي: "لا أريد أن يكون منزلي محاطاً بالجدران من جميع الجوانب، ونوافذي مسدودة، أريد أن تهُبّ ثقافات كل الأرض بمحاذاة منزلي وبكل حريّة، لكني أرفض أن أنقلب بهبوب أي واحدة منها". إن التحدّي هو أن يكون المرء قادراً على التمييز بين الطيّب والخبيث. وأولى علامات المقدرة هي ثقة كل منا أن كل ما يُكتب أو يُقال هو تعبير عن وجهة نظر معينة وبغاية الوصول لهدف محدّد.

علينا ألاّ "نُغَرّ بنُبل مقاصد الغرب الثقافيّة وننسى خبث مقاصده السياسيّة".

7- إن القائمين على تنفيذ الأهداف الإستعماريّة والغايات الصهيونية لتحقيق مشروع الشرق الأوسط الجديد على أنقاض الأمّة العربية، لا يخفون أهدافهم بضرورة تمزيق النسيج الاجتماعي للأمّة. وهم لذلك يسعون إلى تحطيم اللغة العربيّة كونها الجامع الأكبر بين مكونّات الأمة. كما أنهم يبثّون الأقاويل والأفلام والدعايات والكتب والمطوّلات الإلكترونية الهابطة، ويسعون لأن نعيش الماضي البعيد كما يقدّمونه لنا وليس كما هو حقيقة. كل ذلك ليزرعوا فينا الحقد والبغضاء ويُغلبّون الغريزة فينا على العقل والمنطق والإدراك. من هنا علينا أن نكون حذرين حيال ما يُقدّم إلينا من معلومات دينيّة وثقافيّة وتاريخيّة. إنه لمن المهم أن ندرك أن التاريخ الحقيقي للشعوب والأمم ليس تاريخ النزاعات على السلطة إنما هو تاريخ المساهمة في الحضارة الإنسانية، وحضارتنا العربيّة مجلية في هذا المضمار.

8- هنا نأتي إلى موضوع العلاقة بين وسائل التواصل الاجتماعي واللغة العربية. أين الإيجابيّة وأين السلبيّة؟

9- لكن قبل الحديث عن العلاقة الإيجابية أو السلبية بين اللغة ووسائل التواصل، لا بد من الإشارة إلى أن منهج تعليم اللغة العربيّة الذي اعتُمد في لبنان منذ ربع قرن هو منهج يهدف إلى تجهيل الطلاب بلغتهم الأمّ. تقول الدكتورة رجاء نعمه إن "كتب القراءة في التعليم الأساسي تؤسس لعلاقة صعبة مع اللغة العربية، فهي تفتقر إلى الفائدة والجاذبية والتشويق ولا تنطق بانشغالات التلميذ وميوله".

ويصف الدكتور عبد الفتاح الزين القواعد العربيّة في المنهاج نفسه بأنها متشظية، مبتورة، متورّمة ومتحجرة. إذاً، العلّة في عدم إتقان أو استخدام اللغة العربية استخداماً صحيحاً ليس منبعه وسائل التواصل الاجتماعي، ولا هي مسؤولة كلياً عن تراجع اللغة العربية عند جيل الشباب.

أيضاً، لا بد من الإشارة إلى صعوبة إقناع الأهل بجدوى أن يُتقن أبناؤهم اللغة العربية، فالغالبية من الأهالي يبحثون عن مدارس خاصّة يعتبرونها مرموقة لإدخال أبنائهم إليها في صفوف الروضة، لأنها تعلّم جميع المواد باللغة الأجنبية ولا تحظى العربيّة إلا بساعاتها المحددة في المنهج فقط. مع أن الدراسات أجمعت على ضرورة أن يتعلّم التلميذ العلوم بلغته الأمّ، وهذا ما تفعله الدول صغيرها وكبيرها، ما عدا لبنان وبعض الدول العربيّة، بكل أسف.

10 – إنطلاقاً من ثابتة علمية هي أن اللغة الأمّ هي لغة تكوين، واللغة الأجنبية هي لغة تمكين، والتكوين يسبق التمكين، فإنني أتوجه إلى الشباب لأن يعمد إلى كتابة كل ما يريد على وسائل التواصل الاجتماعي باللغة العربيّة. فالكتابة ممارسة وليست موهبة. أقول ذلك لأنني أدرك الفارق بين فنّ البلاغة الذي يتقنه الأدباء وفنّ الكتابة الذي يجب أن يتقنه كل متعلّم.

إن لغة الإعلام، على سبيل المثال، هي لغة عاميّة مُفصحنة، ولا تحتاج إلى تعمّق كبير في اللغة وفي قواعدها. لكن بواسطتها يمكننا التعبير بشكل أفضل عن رسائلنا التواصلية مع الآخرين، ثم إن التعوّد على الكتابة يزيد من إتقانها ويرفع من قيمة تذوقها.

إنه لأمر محزن أن نجد شبابنا يهجر لغته الأمّ فيما يُقدم الطلاب الأجانب على تعلمها وإتقانها جيداً. في الصين هناك عشرات الجامعات التي تُدرّس اللغة العربيّة. وفي الجامعات الغربيّة يُدرّسون اللغة العربية، وكثيرون حصلوا على شهادات الدكتوراة في هذه اللغة من هذه الجامعات. فكيف للأجنبي أن يُتقن لغتنا ونعجز نحن عن إتقانها؟!

11- لا بدّ من التنبيه إلى مخاطر استخدام الحرف اللاتيني أو لغة الانترنت بديلاً عن الحرف العربي، فلكل لغة حروفها وطريقة نطقها فضلاً عن أن الحرف اللاتيني يُفقد اللغة العربيّة جمال شكلها ورنّة موسيقاها، فضلاً عن عجزه في التعبير الدقيق الذي يقصده كاتب الرسالة. يقول الدكتور هنري عويس إن اللغة تنثرعلى مستعمليها ثلاثاً من بركاتها وهي: الدفء والفرح والإطمئنان. ويضيف من لا يرتدي لغته يشعر بالبرد ويخجل من عُريّه.

12- أخيراً أقول: إن وسائل التواصل الاجتماعي هي مجرد وسائل نتحكّم بها ولا تتحكّم بنا. بمعنى أن العلّة إن وُجدت تكون فينا وليس بالوسيلة التي نستخدم.

*مطالعة ألقيت في مؤتمر الشباب الأول الذي نظمه اتحاد الشباب الوطني وملتقى معلمي طرابلس تحت عنوان "وسائل التواصل الاجتماعي لغة الشباب الجديدة". وذلك في غرفة التجارة والصناعة والزراعة في طرابلس.

مدير المركز الوطني للدراسات- أمين الشؤون الخارجية في اتحاد الكتّاب اللبنانيين

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم