الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

مقطع من رواية "زمن صغير تحت شمس ثانية": عبرت إلى حيث سأصبح وحدي

هدى فخر الدين
مقطع من رواية "زمن صغير تحت شمس ثانية": عبرت إلى حيث سأصبح وحدي
مقطع من رواية "زمن صغير تحت شمس ثانية": عبرت إلى حيث سأصبح وحدي
A+ A-

المكان صغيرٌ ولكنه أليفٌ جداً، وكأنني قد كنت هنا من قبل. هذا ما جعلني أشعر بحاجة ماسة للكتابة. عندما كنت في أولى سِنِيِّ الدراسة الثانوية عوَّدت نفسي على كتابة اليوميات. وقد ثابرت على هذا بضع سنين. ولكن عندما راحت تقع أحداث حقيقية في أيامي تستحق التدوين، انشغلت بها عن الكتابة عنها، وصار لدي شعور دائم بالتقصير.

وها أنا الآن على الأرض، في شقتي العارية في الشارع الثاني من مدينة بلومنغتون Bloomington، أحاول أن أفيَ بشيء مما وعدت نفسي به قبل سنين. وهذه ليست أولى محاولاتي. حاولت أن أبدأ بكتابة هذا النص قبل الآن. حاولت أن أكتب بالإنكليزية. لم أفشل ولكني خجلت. سمعت صوت أبي... فخجلت.

يوم آخر. الطقس غريب عني في هذه البلاد. تتغير الأحوال دون أن يكون لي أي دخل فيها، وقد كانت تشرق شمس بيروت وتغيب حين أومئ لها. المطر سخيف في هذ البلاد، يهطل بلا هدف. هنا، لا أحد ينتبه لألوان الغيم ولا أحد يستمع إلى كلام المطر.

كان يجب أن أذهب إلى الجامعة لحضور بعض المحاضرات الضرورية، بحسب ما قالته الموظفة التي قابلتها لدى وصولي من لبنان. وقد قضيت جزءاً كبيراً من الليلة الفائتة أستعيد الطرق التي لم أنجح في مصادقتها أمس. فقد أضعت طريقي أكثر من مرة في حرم الجامعة الذي يمتد على مساحات كبيرة.

حرم الجامعة شاسع جدا ونحن – الطلاب من العالم – أتينا جميعاً سعياً وراء العلم أو ما شابهه. جئنا من كل أصقاع الأرض لكي نوضع في خانة ال international students . عبرنا المحيط لنستمع إلى هذه السيدة الشقراء تحاضر فينا عن كيفية الحفاظ على شرعية وجودنا في الولايات المتحدة الأميركية. تقف على حافة المنصة في مركز القاعة وكأنها تريد أن تحافظ على شيء من القرب منا، نحن الطلاب الذين جئنا من أطراف العالم. لا تريد أن تقف في مكانها وسط القاعة. وكأنها تتنازل قليلاً لتشعر أبناء الهوامش والأطراف بشيء من الود. كان شعرها الأشقر الطويل مجدولاً في ضفيرة تمتد على ظهرها. وقد أسدلت بضع خصلات قصيرة على جبينها، كانت تبعدها عن عينيها بين الحين والآخر بحركة سريعة، وهي تخبرنا عن مدى التقدير الذي تكنه هي ويكنه كل أميركي لثقافاتنا المتعددة، وتشرح لنا عميق احترامها للغاتنا وعاداتنا وهوياتنا، حتى أننا صرنا ننظر إلى بعضنا، أنا اللبنانية والكوري الجالس إلى جانبي، بشيء من الخجل من كل هذا الاحترام والتقدير.

أكملت السيدة أن الولايات المتحدة ترحب بنا كلنا، وبقدراتنا وأفكارنا وأحلامنا، على ألا ننسى تجديد أوراقنا في المكتب المناسب، حيث سيكون الجميع سعيداً جداً بمد يد العون، وإلا إضطرت المؤسسة المقدِّرة والأمة المحترِمة والمكتب السعيد إلى منعنا من العودة إلى البلد الرحب هذا.

الشاب إلى جانبي مدَّ يده وقال شيئاً لم أفهمه. صافحته واعتذرت لأني لم أسمعه جيداً، فأعاد ما قاله. ولكني لم أفهم أيضاً. فقال: هذا اسمي أنا من كرغيستان وأنتِ؟ لم يستطع لفظ اسمي، ولكنه عرف لبنان، وقال إنه سمع أن بيروت مدينة جميلة. وسعد كثيراً عندما علم أني أدْرس في فرع لغات وآداب الشرق الأوسط، لأنه هو كذلك يدرس ثقافات آسيا الوسطى . نعم أنا العربية جئت إلى أميركا لأدرس الأدب واللغة العربيين، وزميلي الكرغستاني يبحث عن كرغستان في أروقة الأبنية الضخمة التي ما زال يضيع فيها. قال إنه فقد إحساسه بالجهات، أضاع الجنوب والشرق والشمال والغرب، وقرر أن يتبع الإشارات لأنه ما عاد يثق بإحساسه. سألني إذا كان لدي خريطة، فالخريطة ضرورية جداً ليعرف أحدنا مكانه. الأمر في الواقع سهل جداً، ما على المرء إلا أن يتبع الإشارات.

أصبح لدي ملح وسكر. نعم. وعاءان صغيران من الورق المقوى يحتويان على ملح وسكر. ليسا أيَّ ملح وأيَّ سكر بل ملحي وسكري أنا. ذهبت اليوم إلى أحد المتاجر الضخمة في الجانب الآخر من المدينة، لأشتري بعض الأشياء الضرورية للبيت، خاصة أني وصلت من لبنان منذ يومين، وعلي أن أجهز بيتاً وأجعله بيتي. ولهذا حضّرت قائمة بالأشياء اللازمة. ولكن عندما وصلت إلى المتجر ورحت أدور حول نفسي في متاهاته التي لا تنتهي، شعرت بما يشبه الحزن العميق. كنت كمن أضاع الطريق في غابة من الصحون والمعلبات والأدوات الكهربائية واللحوم والوجوه الغريبة والكلمات الملونة والملح والسكر...الكثير الكثير من الملح والسكر. وجدت نفسي أخيراً في رواق طويل بين رفوف كثيرة عليها ملح وسكر. لماذا كل هذا الملح والسكر؟ انتقيت علبتين ووضعتهما في سلتي وقلت في نفسي: هاتان سترافقانني إلى بيتي. هذا هو ملح أيامي القادمة وسكرها. سأشتري هاتين العلبتين لأغرف منهما قليلاً من الملح أو السكر، يوماً بعد يوم، بعد يوم. شعرت بالزمن ثقيلاً وكثيراً، وبخطواتي صغيرة صغيرة. لقد عبرت نحو عمر جديد في الرواق بين رفوف الملح والسكر. عبرت إلى حيث سأصبح وحدي، أنا وبيتي ووقتي، وسيصبح علي أن أنتبه متى ينفد الملح والسكر.

صادرة عن "دار النهضة العربية"

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم