الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

مراسم دفن كتابي الأول "كيف كان"

مصطفى علوش
مراسم دفن كتابي الأول "كيف كان"
مراسم دفن كتابي الأول "كيف كان"
A+ A-

كنتُ أمتلك بعض الوقت في العام 2016 ولا سيما في فترة الصباح. وكنتُ أمتلك شجرة في الحديقة، أحاور حنينها الطويل للربيع. بدأت أكتبُ كلماتي وحيداً يرافقني ظل أبي، ورائحة امرأة بعيدة أحببتها مرة عندما كان لون القمر يوحي لي بالأمل. كنتُ أكتب وأرسل بعض المقاطع إلى صديقة روائية تسكن في مهجرها الهولندي القريب من مهجري الألماني. قلت لها أريد رأيك في ثرثراتي. قالت: تابِعْ ثرثراتك إنها تستحق القراءة.

أكتبُ وأكتب، تماماً كشيخ قاربت حياته النهاية وأراد أن يترك شيئاً يبقى من بعده. هكذا توهمتُ. لم أكن أعتقد أن كل الأماكن في هذا العالم شملها الخراب.

كنتُ أكتبُ محاولاً قدر ما استطعت، الالتفات إلى روحي، وهي تكتب. لا يمكن أن أدعي أن ما كتبته هو شعر. ربما نثر يقارب الصراخ الطويل، كصراخ ممثل سوري ذات وقت مضى، حين كان الصراخ الفردي لا يؤدي إلى محكمة الإرهاب، إنما يفضي إلى بكاء طويل.

على رغم شغلي في الصحافة الثقافية السورية، شعرتُ هنا في مغتربي بأني بدون معارف، بدون حائط نشر أتكئ عليه. أحد الأصدقاء قال لي فلان لديه دار نشر حديثة وهو شخص موثوق به. وأضاف الكثير من الصفات.

مثل أعمى البصيرة، وقعتُ في الجورة، جورة دار النشر التي اتضح أنها عبارة عن كومبيوتر فردي في باريس وعامل مطبعة في لبنان يطبع للكاتب عدد الكتب التي سيشتريها ويدفع من حسابه تكاليف الشحن.

أيام مراهقتي في سوريا، رحلتُ مرة وحيداً من سلمية إلى دمشق، احتجاجاً على موقف أسروي. ضعت لساعات في دمشق ووجدني صديق لأخي الأكبر. آنذاك عدت في اليوم نفسه إلى أسرتي، أما كتابي فتمت طباعته لي أنا فقط، فلم يقرأه أحد. وحين شعر صاحب بدار النشر بأنني سأثير الأمر إعلامياً، أرسل إليَّ تنازلاً عن حقوقه كناشر.

ليس مهماً ما خسرته مادياً. المهم ما خسرته معنوياً من فقدان ثقة بهذا الصنف من البشر.

كتابي كان عنوانه "كيف كان". الآن أبحث عن قبر صغير لهذا الكتاب لأدفنه وأدفن معه ثقتي بالمتثاقفين والمتاجرين بالثقافة.

كتاب آخر دبّجتُه كلمةً كلمة في سوريا، وقد جمعتُ مادته الخام من وحي تجربتي المتواضعة في الإشراف على صفحة ساخرة، "عكس الجد"، في صحيفة رسمية.

كتابي الذي لم أتجرأ على الإنتهاء من كتابته، أطلقتُ عليه "ظرفاء من مدينة سلمية".

كتاب منشور لم يُنشر، وكتاب ثانٍ في طور الانتظار والترقب.

أحياناً أسخر من نفسي ومن طيبتي التي جعلتني أقع قي الجورة أكثر من مرة، الجورة التي تعلّم منها الحمار ولم أتعلم أنا منها حتى الآن.

لماذا يكتنفني هذا الشعور بالعبث تجاه النشر؟ لماذا فقدان الثقة هذا؟!

كأن هناك عقلية دكاكين تدير دور النشر أيضاً، فتبحث مثلاً عن أسماء نسائية تطرّزها وترفعها أدبياً بمكبّرات التجميل.

ذكر مرة الشاعر الراحل محمد الماغوط أنه كان يخاف من قرع الباب، يخاف من جابي الكهرباء وهو يدق عليه الجرس. نحن جميعاً الآن كسوريين نخاف بعضنا بعضاً. نخاف بعضنا أكثر من أي وقت مضى. فالذي ورّطني في نشر الكتاب سوري. والذي سرقني في تركيا، مهرّب أصوله سورية، وذلك أثناء رحلة اللجوء. والذي كتب أول تقرير أمني عني كان سورياً. القائمة طويلة عندي.

أتفقد الآن تلك الشجرة الوحيدة التي رافقتني أثناء كتابة كتابي الأول، أسألها وأسأل الحبر والحياة، لماذا كل هذا الخبث في الحياة؟

أتدثر بالصمت والصبر، وأتابع حياتي كلاجئ نظامي وأعدّد مزايا والابتعاد والعزلة. أنام وحيداً في غابة الحياة، وأحكي قصتي البائسة هذه لوحوش وكلما غاب نهار آخر أدرك أن السفينة التي تم ثقبها في قلب البحر، غارقة لا محالة.

مراسم دفن الكتاب ستكون في رعاية النميمة المنهجية التي نتمتع بها، وفي رعاية آخر ابتكارات البحث عن فرصة عمل في عالم الإعلام العربي الغريب، وسوف أحدد موعداً لاحقاً لعنوان المقبرة في سراب الأرض.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم