الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

عابرة

المصدر: "النهار"
رضا نازه- المغرب
عابرة
عابرة
A+ A-

حين رأيتها تتهادى في طرف الرواق حضرني قول الشاعر: من الخفِراتِ البيضِ ودَّ جليسُها / إذا ما انتهت أحدوثةٌ لو تُعيدها.

ورغم أني لم أسمع حديثها، فقد وددتُ لو انها أعادت عليّ بعض صمتِها وهي عابرة. أبصرتها لا أذكر أين، في معرض أو سوق أو زقاق من أزقة الحُلم. خفضتُ إيقاع المشي مثل سائق باغته الضباب، أمسكَ مِقبضَ التعشيق، حوَّلَ إلى السرعة الدنيا، لا ليتوقف. التوقف أمام الجمال خطر متعدد. كنتُ أريد بقاءها في أفقي أطول مدة. كنت أريد أن أنْسَأ في حضورها في حيّز البصر، وأمدَّهُ ما أمكن، ولا بدّ من الانصراف. رغم التباطؤ كان مرورها مروراً بخيلاً غير كريم، خلداً في سَنا برقٍ يذهب بالأبصار... وبالبصائر كذلك. فقد ذهلتُ عما حولي وكدتُ أصيرُ بودليراً من البودليرات يكتب ألف "سُونيت" عن عابرة قرب مائدته في مقهى باريسي أو لندني باردٍ شاردٍ وسط الضباب. لكن عابرتي ليست من ديوان "أزهار الشر". هي من الأزهار وكفى. ومن نوادر الأزهار.

عابرة وسونيت؟ أي غبن هذا لذلك الحضور البهيّ. "السونيت" وجيز وتضيق عبارتُه وتضيع، و"عابرة" اسم نكرة ومترجمة وقد توحي أنها أنثى عبرية. وإن يكن. اللغز انفكّ. الأنثى العبرية هي عين الأنثى اليمنية العربية السبئية الحِميرية سرق هويتها شذاذ الآفاق ليبنوا دولة الإفك. أما عابرتي في خدرها فإنها ستمشي من صنعاء إلى حضرموت، لا تخشى إلا الله، ولن تخشى الذئب. الذئب بريء من دم يوسف ومن دم يُوسُفَة. الذئب لا يؤذي البهاء.

كلا ليست عابرة، هي ظعينة تسكنُ مطالع القصائد. سأرى رحيلها الآن. سأرقبها تترك موقع خيمتها دافئاً عطِراً، وتترك حَبَّ الفلفل متناثراً، وأطلالاً كباقي الوشم في ظاهر اليد، وتُراباً أمسك شاعرٌ حفنةً منه ليقول علماً في لغة الشعر. لا بد أنَّ اسمَها عَزة أو ليلى أو عبلة. أو أمُّ أوفى. كلا، لم يكن يبدو على قدِّها الممشوق حالُ أمومة بعد. كانت كاعباً كأجمل ما وُصف كعب. ويا حسرةً أنها ليست من أترابك. لقد اشتعل رأسكَ شيباً وصارت مفاصلك تخبرك بموضَعها في جسدك، لم تكن تنتبه لركبتك أين تقع، أو لكوعك أو لرسغ يدك... الألم صار من حين إلى آخر ينبئك. دعكَ منكْ.

العابرة كانت جميلة. بهيّة لحدّ الحزن. لحدّ الأسى. لحدّ سوء الحظ المرابط عند باب الحسناوات. لذلك أوصى أبو العباس السبتي بمبالغة الإحسان بالحسناوات لأنهن أتعس المخلوقات في دروب حياةٍ دنيا تؤثرُ الرداءة والقبح والابتذال. الحُسن أخو الحزن. بينهما حرف. الحسن كمينٌ والحسناء أولى ضحاياه. ولأن الحب قليل في حقها، والشعرَ قليل، والمعلقاتِ قصيرة، والأستار لا تكفي الحروف. الصمت والعبور مثل عبورها هو الداء والدواء. كم حاجة قضيناها بالمرور عليها مرور الكرام. الفراق قبل التلاقي أحلى. الأطلال حين يكسوها الطلّ خيرُ جليس. الأثافي السود ورمادُ آخر عَشاء يليقان بالعشق. و"سان فالانتان" المسكين، قضى نحبَه بسبب وساطة في الحب زمنَ الحرب. الحرب حبّ نبتت لها راء الريب والغيرة. لو عاش بيننا المسكين هل كان سيبالي به أحد؟! يكفي المال الوفير والرواج الذي يُحدثه. هل تحسب أن مُلاّك اللوحات سيفرحون بعودة فان-جوخ وسيحبونه؟! لو سولت له نفسه أن يعود فسيسعون للتخلص منه. الأمر مال وإشهار وأسواق متقاربة في لون الحمرة والحبرة وحرق البخور وبيع العطور.

بينما هي تقترب مني في الرواق تركتُ لدقات قلبي الكلمة. ولأن الدقاتِ ضخاتُ دمٍ فكأن الكلمات عادت لأصلها. الكلمات كلوم وجروح نازفة راعفة. ماذا دهاك؟! هل تحدّثك نفسك بصبوةٍ في خريف العمر يا هذا؟ أفِق!

أمعنت النظر فيها وأنعمتُه. إنها يُوسُفة من يوسُفَات هذا المِصر. سأنظر إليها. لن أغضّ بصري عنها. ثم سأكون بعدها من القوم الصالحين الغاضِّين. لكنِ الآن.. ما دمتُ قرب الغَضَا، سأمَاشِي الغضا لياليا، وأترك عيناً تَهِيج البواكيا.

وما هي إلا أن سمعتُ صوتاً بجوارها يخاطبني:

- كيف حالك أستاذ النَّاظِيري؟

اندهشت. من يناديني؟ من يعرفني هنا؟ من يذكرني، وأنا نفسي صرتُ لا أذكر اسمي؟ التفتُّ لأجد رجلاً في سنّي أو أكبرَ قليلاً ينظر إليّ مبتسماً. كان في عينيه مزيج من فرح بلقائي ربما، وفرح بإعجابي بجارته التي توقفتْ هي كذلك تنظر إليّ، أو ربما كانت بسمتُه توبيخاً على طول الحملقة في رفيقته. أشدُّ العتاب الإحسان. التفتُّ إليها. هي كذلك كانت تبدو مبتسمة. كأنها حديثة عهدٍ بالطفولة ولم تبلغ العشرين. وكأنني رأيتُ ملامحها من قبل على وجهٍ أصغر حجماً. قال لي الرجل:

- إنك لا تذكرني. أنا فلان وهذه ابنتي. هل تذكرها؟ وديان... هل تذكرها؟ كانت تلميذتك منذ أحدَ عشر عاماً في "مدرسة طوق الحمامة" في شارع "جميل بن معمر".. هل تذكرها؟

كأنني سمعت أحد عشر كوكباً؟ وهل أذكرُ عشاء أمس يا سيدي أو ذواقه؟ لا يا سيدي، لا أذكر، ولا أريد أن أذكر. الذكرى تطرح المذكور أرضاً أو تلقيه في جُبّ الواقع. لا يا سيدي، لا أذكر، لا أذكر.

مضيت مسرعاً مختلط المشاعر، بينما الرجل يناديني مندهشاً:

- أستاذ الناظيري! أستاذ الناظيري!

مضيت أخاطب نفسي كالمجنون. "لا تلتفت. الملتفت لا يصل. ولا عليك إن قال لابنته "انظري عاقبة التدريس في هذا الزمن، الجنون أو همس الجنون..". لا تبالِ، فليقل ما شاء، لكن مستقبلاً غُضَّ بصرك. فإن لم تستطع فابدأ بالنقطة العمياء من بصرك وحقِّق فيها، ابدأ بجار الجمال قبل الجمال... أعذرَ من أنذر".

اقرأ للكاتب أيضاً: كبقية لهيبٍ أسلمتْ من نارِ المجوسْ

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم