نحتفي بلبنان... هكذا تعلّمنا أن نعيش "المعجزة"
نحتفي بلبنان معهم، بأقلامهم. رجال، نساء من هذه الأرض. كنوز عتيقة، معتّقة كالخمر. وكلّما عتقت، طاب أكثر مذاقها. كلّ الوطن هنا، بهزائمه وانتصاراته، في الحرب والسلم. ولبنانيّون في بحث دائم، في عناء ومعاناة كما في البدايات. أوراق خليلات، والخليل وطن، سماء وحقول وجبال على وسع المدى. وأرز. وايام تزف اياما، وتصنع التاريخ.
صفحات قديمة، جديدة، تحلف بالفجر من أجل الوطن. لو تصدقونها! أجمل وطن يولد وينمو في جنائن أديب، وطيران شاعر. ويرتوي من بحر فيلسوف، ونهم مفكّر إلى حقائق الحياة، وشطحات سياسي أو ديبلوماسي مصهور بالأرض. البطولة التي لا يقوى عليها زمن او فساد، ليست من نسج روايات او خيال فحسب، إنها أيضا وطن اسمه "لبنان" كتب عنه وفيه أدباء وشعراء ومفكرون وسياسيون وديبلوماسيون وفلاسفة كبار... لنتذكر ونحيا. أكثر من قرن، وملح كثير في زمن مالح. في شذرة حكمة، أيا يكن وجع مخاض الوطن وعذابه، فلا بد من ان يهدي إلى الابناء الحياة، يوماً ما.
أدناه، شذرات تشهد للوطن، ترسمه، تفرح به، وتستنهض الأرض وناسها.
جبران خليل جبران (1883-1931): "اديب كبير، شاعر، مفكر، مجدّد، من اركان النهضة الادبية في المهجر. برع في فن التصوير، وصاحب مؤلفات عربية وانكليزية، أبرزها "الارواح المتمردة"، "الاجنحة المتكسرة"، "النبي"، و"يسوع ابن الانسان" (*)...
"ولكن قفوا قليلًا وانظروا لأريكم أبناء لبناني. هم الفلاحون الذين يحولون الوعر إلى حدائق وبساتين. هم الرعاة الذين يقودون قطعانهم من واد إلى واد، فتنمو وتتكاثر، وتعطيكم لحومها غذاء وصوفها رداء. هم الكرّامون الذين يعصرون العنب خمرًا، ويعقّدون الخمر دبسًا. هم الآباء الذين يربّون أنصاب التوت، والأمهات اللواتي يغزلن الحرير. هم الرجال الذين يحصدون الزرع، والزوجات اللواتي يجمعن الأغمار. هم البناؤون والفخّارون والحائكون وصانعو الأجراس والنواقيس. هم الشعراء الذين يسكبون أرواحهم في كؤوس جديدة، وهم شعراء الفطرة الذين ينشدون العتابا، والمعنّى، والزجل. هم الذين يغادرون لبنان، وليس لهمم سوى الحماسة في قلوبهم، وعزم في سواعدهم، ويعودون إليه، وخيرات الأرض في أكفهم وأكاليل الغار على رؤوسهم. هم الذين يتغلّبون على محيطهم أينما حلّوا، ويجتذبون القلوب إليهم أينما وجدوا. وهم الذين يولدون في الأكواخ، ويموتون في قصور العلم. هؤلاء هم أبناء لبنان! هؤلاء هم السرج التي لا تطفئها الرياح، والملح الذي لا تفسده الدهور. هؤلاء هم السائرون بأقدام ثابتة نحو الحقيقة، والجمال، والكمال (من نص "ابناء لبناني").
ميخائيل نعيمه (1889-1988): أديب، شاعر، ناقد، كاتب مسرحيات، مفكر، احد ابرز وجوه النهضة الفكرية والثقافية في زمنه. لُقِّب بـ"ناسك الشخروب"، وترك العديد من المؤلفات والكتابات بالعربية والإنكليزية والروسية، ابرزها "مذكرات الأرقش"، "الغربال"، "كان ما كان"، "كرم على درب"...
"ماذا يجديك قولي ان الشخروب بقعة صغيرة في سفح صنين، تكثر فيها الصخور، والاشجار، والاشواك، والعصافير، وانت لم تعاشر، مثلما عاشرت، تلك الصخور، والاشجار، والاشواك، والعصافير؟ ولا عرفت، مثلما عرفت، انها تزخر جميعها بالحياة والحركة ليل نهار؟ ولا ابصرتها، مثلما ابصرتها، عند بزوغ الفجر، وفي وهج الظهيرة، وقبيل غروب الشمس، وفي ضوء النجوم والقمر؟ فلا انت رأيت عصفور "النقار" يتسلق اضالع الصخور بأظافره الحادة، ولا انت سمعته يغني اروع اغانيه، اذ هو يمعن في التسلق. ولا انت تفيأت شجرة من شجرات الشخروب، وسكرت بما يدور من وشوشات ما بين اوراقها والنسيم... (من نص "الشخروب").
أمين الريحاني (1876-1940): أديب، شاعر، مؤرخ، كاتب، روائي، سياسي، رحالة، ناقد، رسام كاريكاتير، أحد عمالقة الأدب العربي ومن كبار دعاة الإصلاح الاجتماعي. لُقِّب بـ"فيلسوف الفريكة". كتب بالعربية والانكليزية، وله العديد من المؤلفات، ابرزها "الريحانيات"، "خالد"، "زنبقة الغور"، "خارج الحريم"، "موجز الثورة الفرنسية"، "ملوك العرب"، "تاريخ نجد الحديث"، "قلب العراق"، "المغرب الأقصى"، "قلب لبنان"...
"فهل الارز صفحة من التاريخ؟ وهل الارز قصيدة من قصائد الشعراء او نشيد من انشاد الانبياء؟ وهل الارز سطور في كتاب مفدّى؟ وهل الارز مدة من قلم، ورسم على علم؟ وقفت في ذلك الهيكل، تحت القبة الخضراء، بين العمد الساحقة، أُعفّر في تراب السكينة وجه الشك، وامسح بعطرها عين الشوق، وأرهف لهمسها اذن الحب والغفران. ثم سمعت للبلاغة اصواتا قديمة، وللبيان لهجات غريبة، وللتمجيد همسات ونبرات، كانت تتساقط كورق الارز في احضان السكينة، او كمطر نيسان على ورق التوت..." (من نص "من وحي الارز").
الياس أبو شبكة (1903-1947): شاعر، أديب، أحد مؤسسي عصبة العشرة" الادبية. ترك نحو 40 كتابا بين مترجم وموضوع، وابرز اشعاره "القيثارة"، "المريض الصامت"، "أفاعي الفردوس"، "الألحان"، "نداء القلب"...
"أرجع لنا ما كان، يا دهر، في لبنان. كانت لنا أحلامنا والمنى، وكان صفو الزمان. كان الضمير الهني من كنزنا المزمن، وراحة الوجدان وكان... الامان. والعيش حلو الجنى. يا دهر، أرجع لنا ما كان في لبنان!... ذاك النبيذ العتيق في الخابيه، وذلك الابريق يهش في الزاويه، والنرجس المستفيق في الآنيه، والريح لصّ مرق على رؤوس الحبق، كأنه ما سرق، كأنه ما جنى... (من "الحان القرية").
سعيد عقل (1912-2014): شاعر، فيلسوف، كاتب مسرحي، احد أفضل رواد الشعر الحديث في لبنان، وواضع الابجدية اللبنانية اللاتينية. له مؤلفات شعرية ونثرية عدة، ابرزها "بنت يفتاح"، "المجدلية"، "قدموس"، "رندلى"، "لبنان إن حكى"، "كأس لخمر"، "أجراس الياسمين"...
"... ولبنان عهد! ليس ارزا، ولا جبالا، وماء، وطني الحب، ليس في الحب حقد. وهو نور فلا يضل. فكدُّ ويدٌ تبدع الجمال، وعقلُ لا تَقُلْ: "أمّتي"، وتسطو بدنيا، نحن جارٌ للعالمين وأهل! ومن الموطن الصغير، نرود الارض، نذري، في كلّ شطٍّ، قرانا، نتحدى الدنا: شعوباً وامصارًا، ونبني، أنّى نشأ، لبنانا!" ("ارض الحب").
مي زيادة (1886-1941): أديبة، شاعرة، مترجمة، روائية، صاحبة صالون أدبي. من أشهر اعمالها "كتاب المساواة"، "باحثة البادية"، "سوانح فتاة"، "كلمات وأشارات"...
"بنسيم وطني امتزج الوحي والنبوات، ومع اشعة الشمس فيه انتشرت سور الجمال. فكانت له حياة وهاجة متلظية وراء مظاهر الجمود والهجران، وخيالات الآلهة تسير ابدا فيه متمهلة متأملة. من القمم والاودية، من الصخور والينابيع، من الاحراج والمروج، تتعالى معاني بلادي في الضحى، وعند الشفق، تتكامل ارواح الاشياء وتتجمهر كأنها تتداول في انشاء معالم جديدة. احبّ عطور تربة الجدود، ورائحة الارض التي دغدغها المحراث منذ حين. احبّ الحصى والاعشاب وقطرات الماء الملتجئة الى شقوق الاصلاد. واحب الاشجار ذات الظل الوارف، اكانت محجوبة في احشاء الوادي ام اسفرت مشرفة على البحر البعيد..." ("اين وطني؟").
مارون عبود (1886-1962): كاتب، أديب، شاعر، روائي ساخِر، قَصَّاص بارع، مُؤرخ، مَسرَحِي، رائد النهضة الأَدَبية الحدِيثة في لبنان. أَثرى المكتبة العربية بالعديد مِنَ المؤلفات الأدبية والشعرية والنقدية، منها "نَقدات عابِر، "تَذكار الصبا"، "زوابع"، "أحاديث القرية"...
"الوادي الشمالي رهيب جدا، وضيّق جدا كصدور اللاهوتيين المتحجرين... تتناوح فوقه الجبال حتى تتصافح، يمتد من ميفوق الى سيف البحر حيث بني على قدميه جسر المدفون. مسافته عشرون ميلا او تزيد، وتعاريجه أوضح ما تكون في عين كفاع، فكأنك امام فسطان الملكة فيكتوريا المثنى والمطوي بشكل ملوكي. ولو كان هذا الوادي الذي تطلّ منه القرية على البحر عريضا تجري فيه المياه لقلت لك: الدردنيل او البوسفور. ولكنه يضيق فيصير قيد باع فقط..." (عين كفاع، "احاديث القرية").
ناديا تويني (1935-1983): شاعرة فرنكوفونية اثمرت يداها نتاجا أدبيا غزيرا، مغامرا في الحب والارض والحرب والالم... وكوفئت بالعديد من الجوائز، مثل جائزة أكاديمية اللغة الفرنسية، ووسام المجرة، وجائزة الشاعر اللبناني سعيد عقل... ابرز مؤلفاتها بالفرنسية،
Les Textes Blonds, Poèmes pour une histoire, Le Rêveur de Terre
"ما الحرب؟
وبعد، ما الحرب؟ ثنية على جبل ما يشبه النجمة
ضجيج الصيف يكاد يكون للحرب ونهر الاردن عمر واحد
بدونهما جفاف كل الدروب أكثر وزهورها أكثر
يقولان إن الريح لا تحمل اي رسالة
أنْ وحده الكره الحقيقي والرمل المشتعل يقولان
الشرّ هنا في كل ذرات الحجر تحت المياه الممتنعة
في الفكرة التي هي تراب وفي العيون التي تحطم حين تلامس الارض" ("حزيران والكافرات").
إميلي نصرالله (1931- 2018): أديبة، كاتبة، روائية، ناشطة نسوية. لها العديد من المؤلفات، ابرزها "طيور أيلول"، "شجرة الدفلى"، "الرهينة"، "تلك الذكريات"، "الجمر الغافي"، "روت لي الأيام"...
"اشرقت الشمس هنيئة راضية. بدت كامرأة قضت الليل بين احضان رجل تحبه. وراحت توزع دفئها، وتعكس سعادتها على البساتين الخضراء، والجو النقي من الغبار. استيقظت القرية على قرع الجرس. وراحت الاصداء النحاسية تستغيث ملهوفة، تصرخ من بين شفتي القبة البيضاء، وتنطلق عبر الوادي الى التلال والقرى المجاورة... مرة واحدة في كل عام تُخرج جدتي الطبق الرخامي المزركش لترصف فوقه ضيافة العيد. ألمح اصابعها اليوم وهي تتلمس الصفحة الباردة، تحنو عليها بعطف، كما تتلمس الثياب المخبأة في الصندوق الخشبي العتيق... وتردد جدتي عبارتها التقليدية: "رزق الله عا ايام زمان!" (من "طيور ايلول").
بشارة الخوري (1890-1964): أول رئيس للجمهورية اللبنانية بعد الاستقلال عام 1943. أسّس "الحزب الدستوري، ومن أهدافه الحفاظ على أسس النظام اللبناني واستقلال لبنان.
في "يوم جلاء كل الجيوش الاجنبية عن لبنان" في 31 ك1 1946، القى خطابا قال فيه: "ما انتهى جهاد الا ابتدأ جهاد، لان الحياة لا تعرف الركود ولا تتسامح مع المتواكلين المتخاذلين. الاعين شاخصة اليكم ايها اللبنانيون، والآمال معقودة عليكم، ومذ اصبحتم ولاة امركم واصحاب داركم- الارض ارضكم والعلم علمكم والجيش جيشكم- اخذتم على انفسكم المسؤوليات الجسام، وهي قسمة الرجال الاحرار في الوطن المحرر... وانه ليسعدني في هذا اليوم التاريخي ان نجدد الايمان بلبنان، اننا نؤمن بمن خلقه وابده صورة من خلوده. نؤمن بسمائه وترابه ومائه. نؤمن بصخره وبثلجه وبأرزه. نؤمن بجماله. نؤمن على الاخص برجاله في الوطن وفي المغترب. ونؤمن ايمانا حيا بان يد الله مع لبنان ليؤدي على اتمّ ما يرتجى رسالته التاريخية" (بشارة خليل الخوري، "حقائق لبنانية").
الإمام موسى الصدر (1928- حُجِز في ليبيا عام 1978): عالم دين، مفكر، فيلسوف، سياسي، زعيم ديني شيعي. له العديد من الكتابات والمؤلفات، ابرزها "الإسلام وثقافة القرن العشرين"، "الإسلام والتفاوت الطبقي"، "حوارات صحافية (1): تأسيساً لمجتمع مقاوم"، "حوارات صحافية (2): الوحدة والتحرير"...
"لبنان في هذه الفترة ضرورة حضارية أكثر من ذي قبل. لذلك فليسمح اللبنانيون لنا بأن نقول إن التعايش ليس ملكا للبنانيين، لكنه امانة في يد اللبنانيين ومسؤوليتهم وواجبهم، وليس حقهم فحسب. لهذا قلنا اننا نتمسك بوحدة لبنان ونحافظ عليها وعلى استقلال لبنان وعلى انسجام لبنان مع المنطقة، وعلى صيانة هذا الكيان الذي هو امانة للحضارة العالمية... بالنسبة الى المستقبل، هناك اولويات لا يمكن ان تمسّ، وعلى اللبنانيين من خلال الحوار ان يختاروا صيغة تحفظ هذه الاولويات. وعلى قادة لبنان ان يختاروا، مع معرفتهم بما في نفوس اللبنانيين، صيغة لهذه الاولويات. وحدة لبنان هي ميزة وجوده" ("لبنان والحضارة الانسانية، "النهار"، 18/1/1977).
ميشال شيحا (1891- 1954): مفكر، سياسي، صحافي، شاعر ابو الدستور اللبناني، "فيلسوف الميثاق الوطني ومهندس النظام الحر". من ابرز اعماله، "الخواطر I وII"،" أفكار حول المتوسط"، "لبنان في شخصيته وحضوره"، "فلسطين"، "السياسة الداخلية"...
"يوم تنعقد النية بجدّ على الا يبقى لبنان بلاداً "طائفية"، سيكون لزاما على كل طائفة القبول، من دون كثير من الصياح، أن يكون تمثيلها، في بعض الاحيان، ادنى من حجمها. ويكون التعويض جعل تمثيلها اكبر من حجمها في احيان اخرى. ونحن من جانبنا لا نفهم لم لا يحصل هذا... فأن تحترم، في لبنان، بكل دقة، قاعدة التمثيل الطائفي النسبي في مجلس النواب – وهو المتحكم في كل شيء – فذلك هو عين العقل. ونحن نسلم دونما جهد بأن ذلك سيبقى، لمدة ما على الاقل، علامة توازن ممتاز ولازم. ولكن ماذا عن المواضع الاخرى؟ ماذا عن الادارة وغيرها؟ افلا يكفي اذن ان تكون قاعدة النسبية، بما هي ضمانة اساسية، ماثلة في المجلس؟.. ما نقوله في هذا الصدد ينطبق على سائر الطوائف، ولا يحتاج الامر الى فضل بيان. فما الذي تراه يحول مثلا دون ان يمثل الجميع درزي ذو كفاءة في مناسبة بعينها؟ واي ضير في ان تغيب عن الحكومة طائفتان او ثلاث في وقت من الاوقات؟ لن تختلف الحكومة، اذذاك عما هي اذا وجد الحرص، بطبيعة الحال، على عدم الاضرار بجهة من الجهات، كائنة ما كانت. ولكن هذا هو ما يجب التوافق عليه.
فاذا لم يسغ العيش لكل من الطوائف، او للشعب كله، الا وفي يده – او يدها – ميزان يوضع في احدى كفتيه وزير يقابله وزير في الاخرى، او يوضع في الاولى كاتب محكمة يوازنه في الاخرى كاتب محكمة، فانه يكون علينا جميعا اذذاك ان نبلع السنتنا. فهذه خطة مآلها وضع البلاد امام صعوبات تتعذر معالجتها" (لبنان "الطائفي"، 26 ك2 1945).
كمال جنبلاط (1917- 1977): من كبار زعماء لبنان والدروز، مفكر، سياسي، فيلسوف. أحد مؤسسي الحزب التقدمي الاشتراكي. من ابرز مؤلفاته، "ربع قرن من النضال"، "نحو اشتراكية أكثر إنسانية"، "من أجل لبنان"، "في الممارسة السياسية"، "في مجرى السياسة اللبناني"، "هذه وصيتي"...
"الثورة لا تغفر لك: فلا بد لك من ان تتلفقها ساعة يبدو القدر مؤاتيا والنصر في متناول اليد. وثمة عنصر مغامرة في هذا كله. لكن أوليست المغامرة المحسوبة المتبصرة جوهر كل حياة؟ فمن ذا الذي يستطيع ان يعين نصيب الصدفة والتخير في الحياة اليومية؟ واذا كان لا بد من أخذ السببية بعين الاعتبار، كما تتطلب المادية التاريخية، فان القرار الانساني يظل يتخذ عبر الحدس الحرّ. ووفق ذلك، ينبغي ان يتصرف اؤلئك الذين هم، حقا، رجال سياسة واعون، وليسوا مجرد سياسيين مبتذلين. وهذا الحدس الذي هو وليد التسامي، والذي يصل الماضي بالحاضر والعمل السالف بالخطة المقبلة، وهو عمل انساني بالمعنى الدقيق للكلمة، يتخذ في طوية وجداننا الموضوعي" ("هذه وصيتي").
غسان تويني (1926-2012): صحافي، سياسي، ديبلوماسي، مفكر، كاتب. عندما كان سفير لبنان لدى الامم المتحدة، أطلق صرخته الشهيرة: "اتركوا شعبي يعيش"، فيما كان الاقتتال الطائفي يحطّم لبنان. وشكّلت جهوده الاممية أساس صدور قرارات مجلس الأمن الدولي المتعلقة بلبنان، لاسيما القرار 425. له العديد من المؤلفات، ابرزها "اتركوا شعبي يعيش!"، "نزهة العقل"، "سرّ المهنة... وأصولها"، "الثقافة العربيّة والقرار السياسي"، "قراءة ثانية في القومية العربية"، "قبل أن يدهمنا اليأس"...
"لبنان هو المختبر الوحيد في العالم لمفهوم الحياة المشتركة او بالاحرى العيش المشترك الاسلامي المسيحي. وهذا النظام الذي أُرسي على التبادل، ضمن الدستور الذي حاول ان يأخذ بعين الاعتبار موازين القوى. وتبقى روحية هذا النظام امرا لا بد منه حتى وان تطلب الامر اعادة النظر في الموازين التي تغيرت. وليس لبنان مكان حوار اكاديمي وحسب، محدودا ببعض المنابر الظرفية، بل هو مساحة لحوار فعلي يومي وحقيقي، وعبره نحن نتعلّم كيف نعيش معا بمزيد من الاحترام المتبادل. في عالم يتعولم ويتفكك في آن معا، يبقى لبنان الدليل الاخير على انه لا يزال بامكان الطوائف، اذا ما احتُرِمت التعددية السياسية بشكل منصف وطوعي، أن تقف، واحدة واحدة، ثم الكل معاً، في وجه الاصولية والاستبدادية (مسيحيو الشرق، "فلندفن الحقد والثأر، قدرٌ لبناني").
شارل مالك (1906- 1987): سياسي، ديبلوماسي، فيلسوف، مفكر. كان العربي الوحيد الذي شارك في صياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان واعداده في ك1 1948 بصفته رئيس المجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع للأمم المتحدة.
"لبنان يجب ان يظل مستقلا سياسيا تمام الاستقلال. فلبنان لا يحقق رسالته المتواضعة لنفسه وللعالم العربي ذاته، وللعالم اجمع الا في حرية واستقلال سياسيين تامين. لبنان المستقل، المتفاعل في جميع حقول الحياة مع العالم العربي، الرابط مصيره بمصيره، المتضامن معه في كل شيء: هذا كيان يمكن الايمان به وتجب محبته وخدمته... بقاء لبنان حرا مستقلا يقيس نضج العالم العربي السياسي وبعد نظره، ومحاولة محوه اعتباطيا تقيس ابتدائيته وعدم نضجه... اذا احب لبنان نفسه، فعليه ان يقوي اسباب العقل والروح فيه. اذا عرف عنه انه يعبد الحرية الحقة والنور والمعرفة، وكان هو بالفعل كذلك، فأني اضمن بقاءه. اما اذا لم يكن ولم يعرف كذلك في الاوساط المسؤولة المقررة، فسيزول" (مصير لبنان، "اسرائيل اميركا والعرب، تنبؤات من نصف قرن").
كمال الصليبي (1929- 2011): مؤرخ، باحث في تاريخ لبنان والوطن العربي، وايضا في التوراة والإنجيل. أحد مؤسسي "المعهد الملكي للدراسات الدينية" في عمان، الاردن. له العديد من المؤلفات والابحاث التاريخية، وبعضها اثار جدلا. ومن ابرزها، "المؤرخون الموارنة خلال العصر الوسيط"، "تاريخ لبنان الحديث"، "ملتقى طرق حرب أهلية، لبنان 1958-1976"، "البحث عن يسوع"، "قراءة جديدة في الأناجيل"، و"بيت بمنازل كثيرة"...
"ما زال سكان لبنان الى الآن على خلاف كما كانوا في بداية الحرب. وقد انعكست الحلافات بينهم تقسيما فعليا للبلد الى مناطق طائفية متعددة، وتنقلات اختيارية وتهجيرات قسرية للسكان بين المناطق المسيحية من جهة والاسلامية من جهة اخرى، مما عزّز خطوط التقسيم. ومع استمرار الشجار بين الطوائف لم تعد مسألة الولاء الوطني اللبناني هي الموضوع المركزي، بل حلّت مكان هذه المسألة التي كانت اساسية في الاصل شروط التسوية السياسية التي يرغب فيها عموما جميع اطراف النزاع، وهي رغبة تبدو أكيدة وعارمة في المستوى الشعبي. واذ فقد اللبنانيون عطف العالم عليهم واهتمامه بهم، فربما بدأوا اخيرا يكتشفون أنفسهم. وهناك اجماع ملحوظ اليوم بين الجميع، باستثناء اكثر الملتزمين تطرفا، على ان الجميع هم في الواقع لبنانيون، وانهم يشتركون بالفعل في هوية وطنية واحدة تسمو في اهميتها على الانتماءات والولاءات الفئوية الثانوية" ("بيت بمنازل كثيرة").
صلاح ستيتية (1929-): شاعر فرنكوفوني، ديبلوماسي، سياسي، مفكر، ناقد فني وادبي. يعتبر من اهم الشعراء والبحاثة العرب المعاصرين. له العديد من المؤلفات بالفرنسية، ابرزها
Fragments: Poèmes, L'eau Froide Gardée, La nymphe des rats, La Mort Abeille
تُرجمت اعماله الى عشرات اللغات. وحاز عام 1995 الجائزة الكبرى للفرنكوفونية من الاكاديمية الفرنسية.
"لا يثق اللبناني بوجوده الا اذا ارتكز هذا الوجود برفاهٍ على الارض التي يحملها وتحمله. بين اللبناني والعالم، ثمة أولاً تقايض خدمات، وعطايا متبادلة: وهنا بالذات تكمن علاقته بالكائن، في نوع من حبل السرّة. أعطيكَ وتعطيني. أما إذا كنتُ فقيراً ولا املك سوى ذراعيّ الاثنتين ورغباتي، فإنني أمنحكَ جهودي وسهولة تأقلمي وواقعيتي الصلبة" ("لبنان").
أمين معلوف (1949-): أديب، وصحافي. عضو في اكاديمية اللغة الفرنسية. حائز العديد من الجوائز العالمية. من ابرز مؤلفاته، "الحروب الصليبية كما رآها العرب"، "ليون الأفريقي"، "سمرقند"، "حدائق النور"، "القرن الأول بعد بياتريس"، "صخرة طانيوس"...
"شيئا فشيئا طلع ضوء النهار. ففي كفريقدا، تنبىء الشمس بوصولها قبل ان تشرق، لان احدى اعلى قمم الجبل ترتفع في الشرق، في مكان قريب جدا- وتقضي الشمس وقتا طويلا حتى تتسلقها. عند الغروب، يحصل العكس، اذ يعتم الجو وتضاء الفوانيس في البيوت، بينما لا يزال يلمح في الافق، من النوافذ، قرص يحمرّ ثم يزرقّ، حتى لا يعود يضيء سوى بئر البحر حيث يغرق. صباح ذلك اليوم، حدثت امور عدة قبل شروق الشمس. كان طانيوس لا يزال يهيم على وجهه في الحرج المحروق عندما دقّ جرس الكنيسة. دقّة، ثم لحظة صمت. ودقة ثانية، فلحظة صمت. فاضطرب طانيوس. "لقد اكتشفوا الجثث". ("صخرة طانيوس").
إسكندر نجار (1967-): محام، كاتب، روائي، وناقد ادبي. مؤلف لأكثر من 30 كتاب، اضافة إلى الشعر، وقد ترجمت الى اكثر من 12 لغة. حائز جائزة المتوسط، وجائزة "هيرفي دولوين" من الأكاديمية الفرنسية، اضافة الى العديد من الجوائز اللبنانية والعالمية. من ابرز مؤلفاته، "برلين 36"، "رواية بيروت"، "قاديشيا"، "أوراق جبرانية"، "يوحنا المعمدان"، "حصار صور"...
"لا شكّ في أن لبنان معجزة مستمرّة. تُحيّرنا قدرته على الصمود، واستمرار صيغة العيش المشترك بين ثمانية عشرة طائفة دينية متضاربة الولاءات والأفكار... ما هذا الذي يساهم في إنقاذ "هذا البلد الصغير البالغ الأهمية" كما ورد في رسالة الأمير مترنيش عام 1844 الى الكونت دو ستورمير، سفير النمسا في القسطنطنية؟ أهي العناية الإلهية، أم روح المقاومة التي تحرّك اللبنانيين، أم نوع من الفوضى المنظّمة التي تتحدّى كلّ أشكال المنطق؟
لا بدّ لنا من الاعتراف بأن لبنان اليوم لم يعد "سويسرا الشرق" التي تغنّى بها فرانسوا مورياك في مقدّمته لكتاب جاك نانتيه عن بلد الأرز ، كما أن المعالم التراثية والمنازل القديمة التي كانت تُضفي عليه طابعاً ساحراً اختفت كلّها تقريباً، فشوّهت الأبنية العشوائية والنفايات الشاطئ والساحل. لكن رغم كلّ ذلك، يبقى وطننا أحد البلدان الأكثر جاذبية، بحكم أهمية مواقعه الأثرية، وتاريخه الغنيّ، والفسيفساء الدينية التي يتألّف منها "لبنان الرسالة " الذي حيّاه البابا يوحنا بولس الثاني، وكوزموبوليته بحيث لا يشعر الزائر إليه بأنه غريب، وتعلّقه بالحريّة، وطريقة العيش اللبنانية (الانتماء إلى العائلة، البراعة في تدبّر الأمور، وشيء من اللامبالاة...) وهذه الإرادة الصلبة التي يتمتّع بها اللبنانيون لتخطّي الصعاب والنهوض مجدّداً. أضف أن لبنان بلد عربي منفتح على العالم، فهو أشبه بصلة وصل فعليّة بين الشرق والغرب توفِّقُ نوعاً ما بين هاتين الحضارتين التي من الصعب التوفيق بينهما. لم يخطىء الأديب الفرنسي جورج دوهاميل حين كتب في مقالة نشرتها صحيفة "لوفيغارو" أن "لبنان بيئة تواصل وسط هذا الغشاء الخفيّ والغامض في غالبية الأحيان الذي يفصل مجتمعين بشريّين. هناك عبارة شهيرة لكيبلينغ يقول فيها: "الشرق هو الشرق، والغرب هو الغرب. ولن يتمكن هذان العالمان من التفاهم أبداً". لكن الزائر الذي يراقب المجتمع اللبناني بتمعّن يدرك أن كيبلينغ كان على خطأ. لعلّ هذه الوحدة التي فقد الأمل منها، والتي قد يفقد المرء الأمل منها أحياناً، ارتسمت في لبنان أولاً..."!
طموحي أن يقود لبنان نهضةً جديدة تضع حدّاً للأميّة والتخلّف والتعصّب الديني، وتساهم في إحياء التربية والثقافة والفنون والعلوم التي تميّز بها العرب في العصور القديمة. صحيح أن الأمور تغيّرت كثيراً منذ أن دخل عالمنا العصر الرقمي، إلاّ أن لبنان قادر على مواجهة هذا التحدّي بفضل طاقات أبنائه وانفتاحه على الحداثة. فلنطلقِ العنان لمواهب شبابنا، ولندعمهم كما يجب، كي نعيد الى لبنان الدور الرائد الذي حدا بالجنرال ديغول إلى القول، يوم استقبل الرئيس شارل حلو في باريس، إنّ "لبنان وطنٌ حرّ ومزدهر ومثقّف"!(مقتطفات من مقدّمة نجار لكتابه "قاموس لبنان").
علوية صبح (1955-): أديبة، صحافية، مفكرة، وناقدة. لها العديد من الروايات المثيرة للجدل، اهمها مريم الحكايا، "دنيا"، "اسمه الغرام"، "نوم الأيام"...
"منذ بداية وعيي، شُغفتُ بكلّ الأشياء التي تشبه الحب. عَصْف الريح والنَّسمَات الرقيقة، الأشجار المكسوَّة وتلك العارية. أتخيَّل أن الأشجار العاشقة تتعرَّى من الحزن حين تهرب منها أوراقها. زيح النمل الطويل المهرول في اتجاه الثقوب، يُفرحني، ويصرف تفكيري عن كآبة عابرة تصيبني، فأحاول أن أردَّ له الجميل بأن أدفش أمامه فتات القمح التي يحملها. عناق سنابل القمح حين تتمايل. وجه القمر يغطس في الغيم، ثم يُطلّ ضاحكاً. شتلات التبغ في حقل الجيران تغمزني في الصباحات الندية. كوز الرمان الصغير يستدير ويتكوَّر مثلما صار ثدياي يفعلان. الفراشات الحائمة فوق فنجان الزهر. صوت الزيزان الذهبية تبارز الحشرات الصغيرة فوق أغصان الشوك. أغاني العصافير، وقوس قزح حين يلوّن صدر السماء يبشّرني، خاصة في أيام رمضان، بما صرت أحلم به" ("اسمه الغرام").