شعراء لبنانيون يلوّنون كآبات العُمر ويخبّئون في عبّهم أوراق الخريف
هامات تكتب القصيدة من الأحشاء والأعماق وآلام الروح. نختار خمسة شعراء من لبنان. هو عدد ضئيل مقارنة بالأسماء اللبنانية المتفوّقة في كتابة الشعر، لكنّها أسماء من عطاءات هائلة وقيمة لا تتكرّر.
وديع سعادة: شهقات البراكين ورذاذ المستنقعات البعيدة
شاعر لبناني يقيم في أوستراليا. بديع، مُكثّف، مُعتّق كالنبيذ الأنيق. من مواليد 1948 في قرية شبطين الشمالية. عمل في الصحافة العربية في بيروت ولندن وباريس، إلى أن هاجر في أواخر عام 1988. تُرجم بعض أعماله إلى الألمانية والإنكليزية والفرنسية، ونال أخيراً "جائزة الأركانة العالمية للشعر" التي يمنحها سنوياً بيت الشعر في المغرب. من أعماله: "ليس للمساء أخوة"، "محاولة وصل ضفتين بصوت"، "مقعد راكب غادر الباص"، وسواها.
في أمسية تكريمية أقامها "صالون العشرين الأدبي" على المسرح البلدي في قاعة بيار فرشخ، زغرتا، قال عقل العويط: "قرأت شعر وديع سعادة برمّته منذ توزيعه كُتيّبه الأول في شارع الحمراء في العام 1972، قرأت شعره حتى آخر أعماله، ومثلما أعرف أنّ النبع يحتاج أعماراً حتى يولد، أعرف من الآن أنّ شعرية وديع سعادة كان لا بدّ لها أن تنتظر أعماراً قبل أن تعثر على قوامها لتحيا عمرها الخاص داخل هذا القوام. هذا أبلغ اعتراف يمكن أن يُعطى لموهبة شعر".
من شعره:
تبدأ الحياة في اليوم الأخير.
الأيام كثيرة، لكن الحياة قليلة. تتأجَّل من يوم إلى يوم. وحين لا يبقى غير يوم تتدفق كلّها إليه علَّها تحيا فيه… وهكذا تبدأ الحياة، فقط حين انتهائها.
ولذلك، لن تعاش الحياة أبدًا.
لديَّ نهارٌ واحد بعد، ماذا أفعل؟ أبدأ الحياة؟ وبأي شيء أبدأها هذه الحياة؟ مع مَن؟ كيف؟ بأي فعل وأي كلام؟
وإذا صدَفَ أن التقيتُ أحداً ماذا أقول له؟
الآن أبدأ بك حياتي؟ وإذا قلتُ واستجاب، كيف أعيش حياةً أودّعها؟ كيف أحيا موت الحياة؟
استيقظتُ باكراً جداً. على الراحلين أن يستيقظوا باكراً جداً ليملأوا نهارهم. عليهم، على الأقل، أن يروا الفجر قبل أن يذهبوا.
في فضاء هذه الغرفة نثارُ بشرٍ عاشوا قبل آلاف السنين، أودّعهم، وأصير مثلهم نثارًا.
أودّع نبضَ الكواكب الذي وصل إليَّ عبْر التيه الفضائي، من مجرَّات بعيدة. الوشوشات الكونيّة، غبارَ النجوم، الهواءَ المولود من ملايين السنين، القاطعَ بصمت فضاءً هائلاً ليصل إليَّ.
أودّع شهقات البراكين، رذاذَ المستنقعات البعيدة. الصورَ الكراسي المرايا الساعات، عيونَ أطفالي، أحذيتَهم المرميّة كيفما كان على البلاط.
أودّع الأمواج التي تخترق جسدي، الذبذبات الآتية من أقدم مكان، من الارتطام العظيم.
هل كان عليَّ أن أرتطم بنفسي كلّ هذا الوقت، ويرتطم كلُّ شيء بي، لكي أصير في النهاية فريسة صامتة؟ ألم يكن في وسعي، من زمان، أن أخفّف عن هذا العالم الضاجّ، صوتًا؟
الكون، يجب أن يرتاح. على الأصوات كلّها أن تصمت.
آه، الهدوء".
من أقواله: الذين يصمتون يرتفعون عن الأرض قليلاً. لا تعود أقدامهم وأجسادهم ملتصقة بها. الذين يصمتون ينسحبون من جمهرة الأرض كي يحتفوا بذاتهم. كأنَّ الاحتفاء بالذات لا يتمُ إلا بالعزلة. كأنَّ الاحتفاء بالحياة لا يكون إلا بالصمت.
محمد علي شمس الدين: "الشرودُ غايةُ الشريد"
من أعمدة الشعر اللبناني. نصوصه كمداميك، راسخة، متوهّجة، متجذّرة في عمق الإنسان. هو أديب وشاعر من جبل عامل، حائز على دكتوراة دولة في التاريخ، إضافة إلى إجازة في الحقوق. من طليعة شعراء الحداثة في العالم العربي، شارك في العديد من المهرجانات الشعرية، ويحرص على كتابة مقالات نقدية وأدبية عن الشعر والأدب والفكر في المجلات والصحف اللبنانية والعربية.
من دواوينه الشعرية: "ممالك عالية"، "رياح حجرية"، "كتاب الطواف"، "حلقات العزلة"، "اليأس من الوردة"، "النازلون على الريح"، وغيرها.
من قصائده:
أنا الطريق
أنا طريقُُ وحشتي
كأنما الشرودُ غايةُ الشريد
أخاف
أخافُ أن يكون قاتلي
بداخلي
الموت
أرسلتُُ طائراً إلى السماءِ لم يَعُدْ
فقد أسَرَهُ الفضاء
الحانة الضائعة
ما بين كفّّة المساءِ والضُحى
أضعتُُ يا مُغيثُ حانتي
الحلاّج
سمعتُُ صائحاًً يصيحُ
يا أحبّتي اقتلوني.
صلاح ستيتية: شغف الاشتعال بالشعر
ابن أسرة بيروتية، من مواليد العام 1929. شاعر وكاتب مقال وناقد فني وأدبي. شغفه بقضايا الشعر المعاصر دفعته إلى الارتباط منذ خمسينات القرن الماضي بصداقة مع كبار الشعراء الفرنسيين أمثال بيار جان جوف، اندريه دو بوشيه، رينيه شار وغيرهم. القصيدة عنده تعبير بليغ يستلهم الفرنسيّة لساناً ويستحضر الإرث العربي والإسلامي، ويغرف من حضارات العالم. هي ملوحة وخشونة وهواء عليل وسماء وأقفاص وحريّة وصقور ودمعة.
نال جوائز أدبية عدّة، منها جائزة الفرنكوفونية الكبرى لعام 1995، وجائزة الصداقة العربية الفرنسية عن كتابه "حملة النار"، وجائزة "ماكس جاكوب" عن "تعاكس الشجرة والصمت"، وجائزة "المفتاح الذهبي" لمدينة ميديريفو في صربيا.
قال عن لبنان إنّه غارق تحت التفاح وعناقيد العنب والدراق والفحم في عين النساء، فحم رهن الشرارة، يوشك أن يشتعل.
كتبت عنه مرّة مي منسّى: "هو الذي رفض عبارة "فرنكوفونية" قائلاً إنّ العرب يستحقون صورة أفضل، وكان ذلك أثناء محاضرة في كليّة الطب في اليسوعية حول اللغة الفرنكوفونية والكتابة بها في العام 2001، كتب بلغة بودلير وفيكتور هوغو وموليير، ويقينه أن اللغة الفرنسية لم تستأذن حبره إلى مجاري الإبداع لديه، ليحقق وجوده. بل في هذه الغزارة من العطاء باللغة الفرنسية إيماءة من القدر جمع فيه مساره الأدبي والشعري ببعديه العربي والإسلامي".
طلال حيدر: في عبّه خبّأ ورق الخريف الأصفر
من أعمدة بعلبك. مواليد العام 1937. صاحب "وحدن بيبقوا متل زهر البيلسان"، رائعة #فيروز، التي كتب لها ولكبار الفنّانين الملتزمين، مثل مارسيل خليفة وأميمة خليل ووديع الصافي وغيرهم. ردّد الجميع كلماته، شاعر متعمّق في تفاصيل الذات الإنسانية الريفية البسيطة وجماليات علاقتها مع الطبيعة.
خبّأ في عبّه ورق الخريف الأصفر، ونام حتى لا يبرّحه الشوق في السنة الآتية. قصائده تشرب القهوة معه صباحاً "أحلى من الركوة على منقل عرب". وحين يقرأ ديوان العرب يكتب على اللوح أمام تلامذته في بعلبك: "سندرس المتنبي فقط لأن بعد المتنبي على العرب أن يصمتوا"، كما كتب عنه سلمان بختي.
كتب طلال حيدر، أحد شعراء العامية الكبار،
"وقعوا عن سطوح العمر واستلقّتن الحجار
وقعوا مثل ما بيوقع المشمش على ولاد الصغار".
ويسأل: "شو العمر؟
غنّي ولنّو شوي حتى أسمعك
يا مركبي الختيار
لح تغرق
وتغرقني معك".
إيتيل عدنان: الفارسة
شاعرة وكاتبة وفنانة مرئية، لبنانية أميركية، من مواليد بيروت، 1925. سافرت إلى باريس في سنّ الرابعة والعشرين، ونالت شهادة البكالوريوس في الفلسفة من السوربون، ثم توجهت إلى أميركا لتستأنف دراستها في جامعتي كاليفورنيا وهارفارد. عادت إلى لبنان لتعمل صحافية ومحرّرة ثقافية في جريدة "الصفا"، الصادرة بالفرنسية في بيروت، وتميّزت فترة عملها في الجريدة بالافتتاحية التي كانت تعلّق فيها على أهم القضايا السياسية.
نالت جوائز عدّة، منها "جائزة الكتاب العربي الأميركي"، جائزة "لمبادا للآداب"، ولُقبت بـ"فارس الأدب" من الحكومة الفرنسية.
من أعمالها: "يوم القيامة العربي"، "27 أكتوبر"، "الست ماري روز" (رواية عن الحرب الأهلية)، "رحلة إلى جبل مونتالباييس"، "باريس عندما تتعرى"، "قصائد الزيزفون"، "سماء بلا سماء" وسواها.
من قصائدها (تعريب عبده وازن):
ليل
إلى أوجيني بولتر
هو الليل دوماً
وإلّا فلن تكون لنا حاجةٌ
إلى الضوء
واقفةً تنام الأشجار، أشجار هذه الغابة التي خلقت الليل عندما كان القمر يرنو إلى جهةٍ أخرى. المراكب الشراعية توارت والبحر، في هذا الظلام الذي لم يفِ بوعده.
حقل الورد نام في هبوب الريح.
ظلالٌ، يا لَلغرابة، تشابه أشجار الأمس، أيّام الأمس والغد هي جدران سجوننا.
هذي الظلال حطّتْ بنا في سيّارات أجرةٍ ومنازل، قائلةً للضوء أن ينتظر في الخارج
لكنّ القمر كان على حقّ في عدم مبالاته بها.
أعراس التاريخ مع القهوة التي نرشفها، في نهاراتنا التي لا تني تتقاصر، توقظ فينا الحاجة إلى إعادة اكتشاف الحبّ.
أصدافٌ فارغةٌ ترتمي على الشاطئ في أوقاتٍ حائرةٍ دوماً.
يأبى الهنديّ أن يقطع العشب، فهو، كما يقول، ضفيرة أمّه، ووعدتُهُ بأنّني لن أحطّم أيَّ حجرٍ، فالحجرُ قد يكون منزل روحه.
الفلسفة تقودنا إلى البساطة".
شعراء لبنانيون يلوّنون كآبات العُمر. الذاكرة تحرسهم إلى الأبد.