الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

9 شباط، عيد مار مارون

اميل أبي نادر
9 شباط، عيد مار مارون
9 شباط، عيد مار مارون
A+ A-

هو عيد لبنان، لبنان الصغير المساحة والحجم، والكبير في التاريخ وفي التراث. فوق كل أرض وتحت كل سماء.

وبنو لبنان هم حفدة القداسة الأُوَل، توزّعوا في الجهات الأربع والقارات الخمس، والمحيطات السبعة؛ إنهم في جنيف ولندن وباريس، موسكو وبرلين، في سان باولو بيونيس أيرس وسيدني، في مونتريال ونيويورك، في لاغوس وأبيدجان ودكار، في كل موطئ شمس وتكيّة نجمة، وقد صحّ فيهم قول شاعر النيل، حافظ إبراهيم:

"ما همّهم أنهم في الأرض وقد نشروا فالشهب منشورة مذ كانت الشهب"

"وأدوا المناهل في الدنيا

ولو وجدوا الى المجرّة رُكباً صاعداً ركبوا"

فإن قلنا لبنان، قلنا الموارنة في الطليعة.

المارونية ولبنان متلاصقان كما الخاتم في الإصبع، والسوار في المعصم.

يحتفل لبنان بعيد مارون، أباً لطائفةٍ أصبحت على مرّ الدهور جزءاً لا يتجزأ من شعب لبنان الأبيّ.

والمارونية ليست شيعةً ولا مذهباً ولا طائفة، بالمعنى الحصري للتعريفات، إنما هي مسيرة نهج سليم وحياة حرّة كريمة.

إنها أصالة نابعة من أرضٍ، مجذّرة في تراث، ناهدة إلى المجد، في تاريخها عناوين مضيئة وأعلام مضيئون، وهي في الفَخَار لا في الكبرياء، في الانفتاح لا في التقوقع والانعزال، في التسامح والغفران، لا في الحسد والضغينة. وهي زهوٌ جعل التاريخ يكتب عما يمكن أن يُسمّى الأمّة المارونية الصامدة بوجه عواصف الأجيال، لها قاعدة من أرضٍ وشعب، ومسارٌ ثابت أكيد، من عراقة الماضي إلى هيبة الحاضر.

نمت المارونية وترعرعت في ثنايا أرض لبنان، بين مقالع الصخور وأعباب السنديانات العتيقة، وسقسقة مياه الينابيع، وشاطئ أبحرت منه سفنٌ من خشب الأرز، تمخر عباب اليّم، تنقل المعرفة والحرف إلى الجهات الأربع.

وقد برز الموارنة منذ ذاك، عبر عناصر ثلاثة: الدير والبيعة والسلطة.

1- الدير: الذي تعلّم فيه الماروني حبّ الله والآخر، وحبّ الأرض، وتعلّم أن يعمل للثلاثة معاً، فالدير ليس مكاناً للصلاة فحسب بل للعمل أيضاً، فهو قلعة فكر ومنطلق رسالة، فمن الدير السحيق على العاصي إلى دير قزحيّا وقنوبين، إلى اللويزة ومار شعيا، إلى مشموشي والنبطية ودير القمر وبيت الدين، وسواها الكثير، كانت جميعها واحات صلاة وتأمل وانفتاحاً عقلياً وإسهاماً حضاريّاً.

2- البيعة: تربط الماروني بربٍّ تجسّد وصار إنساناً، وهي ليست خدمة اجتماعية، بل هي دينامية وصيرورة، ومن هنا يمكن أن يتلاقاها الماروني وغير الماروني، إذا وعى أبعاد تجسُّد الإله بالانسان وبالكون.

3- السلطة: التي تربط الماروني بمجتمعه ورسالته على الأرض، يده بيد أخيه الإنسان من كل مشربٍ ومذهب، والبيعة عند الموارنة لم تهيمن يوماً على الأمة، بل كانت هي تخدمها وتلهمها دون أن تسيطر عليها، والمارونية حريّة، وهمّ الماروني عبر التاريخ كان أن يعيش حرّاً، أن يتعلّم ويعّلم، أن يعرف ويُبدع، أن ينمّي أصالته.

الحرية صنو الماروني، وتعلّقه بها كان دوماً ضمان ثباته وإنجازاته، وبها دمغ لبنان، فكانت واحدة من ركائز دستوره وأنظمته وقوانينه، وأصبحت مسلكاً ونمط حياة.

المارونية تراث روحي وعطاء، انبثقت من مجتمعها إشعاعات ثقافية مضيئة ولدّت أنماطاً تُحتذى، فكان الموارنة إلى جانب أقرانهم في لبنان، روّاد نهضة اللغة العربية، وانطلقت على أيديهم الصحافة في مصر ولبنان، في الأميركتين وأوستراليا؛ وفي القرن التاسع عشر، ظهرت في أحد الأديرة أول مطبعة بالحرف العربي، واستمرت العطاءات، كتباً وموسوعات ومؤلفات هي اليوم موضع اعتزار وفخر الموارنة ولبنان.

ليست المارونية أمجاداً فحسب، فقد مرّت بجلاجل، عرف الموارنة خلالها صلباً وأكاليل شوك واإسفنجات خلّ، لكنهم ظلّوا صامدين بوجه الريح، مؤمنين بقدرتهم، قانعين بقدَرِهم. يغمرهم عمق الإيمان، والمحبة والعزم الأكيدين للسير على خطى مارون، شفيعهم وشفيع لبنان.

صلاتنا اليوم في العيد، أن ينزل الله على لبناننا الحبيب، وعلى كل اللبنانيين، هنا وفي العالم، بشفاعة القديس مارون، النِعم السماوية، نِعم المحبة والعطاء والغفران، والعيش الحرّ الكريم، متّحدين جميعاً، مع كل الأخوة المؤمنين، صفاً واحداً ويداً واحدة، لمواجهة كل ما يهدد الكيان من شرّ وتكفير، ويهدّد وحدتنا وكرامة الوطن والمواطن، بالتشتت والهجرة والتهجير.

أخيراً، أستميح عذراً روح لبنانيّ كبير، فقيد لبنان، الصديق الغالي السفير فؤاد الترك، إذ استلهمتُ في هذا المقال ما جاء على قلمه ولسانه في عيد مار مارون في جنيف في 11 شباط 1995، أمام وفد كبير من الموارنة والمؤمنين، وبحضور المغفور لهما الأستاذ أرنست كرم رئيس الرابطة المارونية في حينه، والمهندس ريمون روفايل رئيس المجلس العام الماروني.

وأختم، مع أبناء بلدتي الحبيبة بيت الدين، وأبناء شوفنا الأبيّ، بصلاةٍ لشفيع بلدتنا مار مارون، ليحرس أهلها ويرعاهم، ويقيهم شرّ العابثين المدمنين بتراثها وكرامتها وتقاليدها.

أعاده الله عيداً مباركاً على كل الموارنة، في لبنان والعالم، وكل المؤمنين بالله وبكرامة الإنسان، في لبنان والعالم.

وبهذا البيت لسعيد عقل، شاعر مجد لبنان:

"وواحد مجدُ لبنان الذي أخذتْ عنه الحضارةُ ما لولاه لا حضر".

مدير عام متقاعد

الرئيس المؤسس لنادي بيت الدين

عضو المجلس التنفيذي في الرابطة المارونية لأربع ولايات سابقة

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم