الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

المنشقّ الحافي

روجيه عوطة
A+ A-

لم يجد الطفل السوري سبيلاً إلى تجنب البرد بسوى تركيب بطاقته التي حملها إلى الجهة الإغاثية، شاهراً إياها، وطالباً بعض الثياب. لم يقع ياسر، بحسب الإسم المكتوب على كرتونته، على طريق يسلكه إلى الدفء، من دون المرور ببطاقة "نظامية"، ومن دون الركون إلى ضحكة مفتعلة أمام الكاميرا. كان على الطفل أن يضحك، ويضحك كثيراً، بغاية الحصول على ملابسه. على رغم ذلك، ظل ياسر حافياً، لأن الأحذية نادرة، ولأنها تحتاج إلى بطاقة "نظامية" أخرى.


في المرة المقبلة، سيعمد الطفل إلى تركيب بطاقة إغاثية جديدة، وليس تزويرها، على ما قيل، ذاك، أن هويته الماضية، تصلح للصقيع، وبطاقتها القديمة، مسؤولة عن الإعتقال. الآن، يلجأ ياسر إلى كرتونة، ظناً منه أنها ستساعده على تفادي الطقس القاتل. لقد بدأت هويته من جسمه الصغير، عند احتكاك أصابع قدميه بالثلج والماء، فولدت حاجته إلى بطاقة، إلى إسم موقت ومرح. هو ليس إسمه ربما، لكنه سيعينه في البقاء على قيد العيش بدفء.
عندما يشهر ياسر بطاقته، يذكّر بأحمد البياسي، الشاب الذي أطلق عبارة "هذه هويتي"، بينما كان واقفاً أمام العدسة، متحدثاً عن انتهاكات الجيش الأسدي في البيضا. صحيح أن المقارنة بينهما لا تستوي على ظرف جامع، غير أن الإثنين يتفقان على استخدام البطاقة لإعلان حاجةٍ معينة. ياسر يرغب في اللباس، وأحمد في الحقيقة. الطفل يفرّ من الصقيع، قبل أن يقف طفل آخر إلى جانبه، ويفرّ أحمد من التزوير، قبل أن تصبح عبارته مفتاح انشقاق الجنود: "أنا أعلن انشقاقي، وهذه هويتي".
ليس ياسر ببعيد من هذه الناحية، بل يشبه أحمد بعد عبارته، أي حين صارت حركته مشهداً انشقاقياً، يركن السوريون إليه، كي يعلنوا خروجهم على النظام. فالطفل انشقّ، كما جاء في إحدى الصور، عن المنظمات الدولية، التي تُعنى بحقوق الطفل. ياسر أعلن انشقاقه عن الأنظمة الدولية أيضاً، التي تترك السوريين يُقتلون قصفاً وجوعاً وبرداً، كما أنه، مثل أحمد، يشهد على بعثية تلك الأنظمة، وعلى انتهاكها اللاجئين عبر اللامبالاة بهم، ومن خلال استكمال ما بدأه بشار الأسد.
قبل ذلك، ياسر انشقّ عن طفولته بطفولته، بحيث أنه استخدم حيلته الخفيفة، كي يحمل كرتونةً وصورة، ويتوجه إلى مكتب الإغاثة. أحمد أيضاً استخدم بطاقته لينشقّ عن مضمونها، وقد فتحت حركته المشهدية تلك، طريقاً ثورياً. أما حركة ياسر، فهي فعل ثوري، لكنها لم تكن قادرة على شق أي طريق، حين قبضت الكاميرا عليه، وحولت عفويته إلى سلوك مطلوب. فياسر أصبح مشهداً. توقف انشقاقه قليلاً، لأن المحيطين به، قد جمدوا حيلته بمطالب الضحك. غير أن هذا لا يلغي انتفاضته على الهوية وبطاقتها، أو انشقاقه عن الإغاثة ونظامها. هو أحمد الآخر، الذي كان قد انشق عن الزيف، والآن، ينشق عن البرد، وفي الحالتين، يعلن انشقاقه عن النظام.
لقد أعلن ياسر انشقاقه بعبارة مختلفة. فبدل أن يقول "هذه هويتي"، قال بحيلته: "أنا ياسر، أعلن انشقاقي، وهذه ليست هويتي". إسمه لا أهمية له، فهو حتى لو كان يدعى أحمد أبو الخير، على ما تناقلت بعض المواقع، سيظل منشقاً عن الأسد، وعن البرد، وعن الهيئات الدولية. كما سيظل حافياً بلا حذاء، إلى حين ممارسته اللعبة الثورية مرة أخرى، وهذا هو سبيله كي لا يُقتل، أو يُخطف، أو يُنتهك حضوره. بذلك، يكمل ياسر نصيحة الحرة رزان زيتونة، التي أنهت بها أحد نصوصها: "اغسل أسنانك واذهب إلى سريرك فقد تأخر الوقت. ولا تشرب الكثير من الماء قبل النوم! إذا سمعت هدير الطائرة إنزل إلى القبو، وإذا شممت رائحة غير طبيعية اصعد إلى السطح، وإذا لم تجد الوقت كيف تفعل أي شيء، فاعلم أني أحبك كثيراً، لكن ليس باليد حيلة. العالم قذر ومتوحش. ستفهم يوماً حين تكبر، إذا أتيح لك أن تكبر!". فيضيف ياسر: "وإذا عرفت أنه ليس متاحاً لكَ أن تكبر، إنشقّ، وانشقّ كثيراً، كي لا تظل حافياً".

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم