الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

يعصبون بصيرتهم فراراً من تحدّيات الحياة

جلنار
يعصبون بصيرتهم فراراً من تحدّيات الحياة
يعصبون بصيرتهم فراراً من تحدّيات الحياة
A+ A-

ليس غريباً أن يسكننا هاجسٌ يجعلنا نُصاب بما يشبه العمى الاختياري، أو اختصار ما نريد أن نراه، وما نرغب بأن نَحجب عنه أنظارنا حتى لا يتحوّل، كما هي طبيعة المخاوف، إلى أفكار ملحّة، مقلقة، ومفزعة في الوقت ذاته، فنقوم بتركيز جلّ اهتماماتنا على أمور صغيرة ترتبط بنا إلى حدّ كبير، ولا تتعدى محيطاً ضيقاً جدّاً ملتصقاً بنا إلى أبعد الحدود، تجنّباً لمعرفة ما يجري خارج تلك الدائرة المغلقة على أسرارها.

هناك موجات هروب كثيرة يمرّ بها الإنسان، أكثرها صعوبة تلك التي يقضي عمره بأكمله يعيش فيها هرباً من واقع مظلم ليس فيه بصيص نور يسمح له بأن يتنقّل بين ممرّات الحياة الضيقة وحواجزها المبعثرة بين خطواته، تلك العتمة تمنعه من الوصول إلى مرسًى آمنٍ بروحه وجسده وبقايا آماله.

قبل أسابيع، ضجّت المواقع الإخبارية والفنيّة بفيلم الإثارة (Bird Box)، وتناولت في تقاريرها فكرة الفيلم وتأثُّر المشاهدين بأحداثه، ومدى نجاحه، اعتماداً على تحطيمه أرقاماً قياسية؛ فقد تجاوز عدد مشاهدات الفيلم، كما ذُكر، خلال سبعة أيام فقط، خمسة وأربعين مليون مشاهدة، ثم عادت قنوات الأخبار لتحذِّر من انتشار تحدي (البيرد بوكس) المستوحى من قصة الفيلم ذاته، التحدّي أدّى إلى كوارث مذهلة، فليس من المعقول أن يسلم من يقود سيارته وهو معصوب العينين، تقليداً لبطلة الفيلم التي كان عليها أن تبقى معصوبة العينين لتتجنّب رؤية مخلوقات غريبة إذ مجرد رؤيتها يعني الموت. في الفيلم أجبر الأبطال على أن يعصبوا أعينهم لتمسّكهم بالحياة. وفي التحدّي اختار أبطاله أن يعصبوا أعينهم هرباً من حياة فارغة دون أن يقيموا حسابات للموت أو خطره، تاركين أرواحهم تتأرجح بين احتمال البقاء أو الاندثار، فالحياة تتساوى عندهم مع الموت، فلا شيء يعنيهم أكثر من تجربة مثيرة حتى ولو كانت تجربتهم الأخيرة.

مَنْ منّا لم يعش معصوب الفكر هرباً من تحديات رمت بثقلها على كاهله، أو ضائقة لحقت به! الحياة مليئة بأمثلة يمكنها أن تكفي الكون حتى آخر أيامه دهشة وإثارة. فكرة الفيلم والتحدّي الذي لحقه ليسا إلا واقعاً عُرض علينا عبر صور سينمائية، وإلا لما شعرنا يوماً بمدى قرب الأحداث منا، ورغم ذلك يتعدى الواقع ما يعجز الخيال عن تصوّره أو نقله.

كثيرون هم الذين يعصبون بصيرتهم فراراً من تحديات الحياة ومن مفرداتها عصيّة الفهم. بعضهم يبني لنفسه عالماً بعيداً عمّا يدور حوله ولا ينتمي إلا له، ويرفض أن يتصل مع مجريات الأحداث العامة في عالمنا الحقيقي، لكنه، في النهاية، يبنيه مع مَن هم مثله، وأولئك في نهاية المطاف يتجاوز عددهم تلك الملايين التي شاهدت الفيلم خلال أسبوعه الأول، فهم يعصبون بصيرتهم كمنهج حياة.

التحدّي الذي يمكن أن نطلقه حقاً: هل يمكن لأحدكم أن يعيش معصوب العينين حتى يعيش حياة هادئة كما يعيشها البعض، متناسياً ما تزفّه قنوات الأخبار من دمار.

اقرأ للكاتبة أيضاً: كيف يسدل مغتربون الستار على ذكريات شكّلتنا؟

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم