الأربعاء - 24 نيسان 2024

إعلان

أنا فائقُ الهشاشة أنكسرُ كقشّة عند أوّل ريح

المصدر: "النهار"
فوزي يمّين
أنا فائقُ الهشاشة أنكسرُ كقشّة عند أوّل ريح
أنا فائقُ الهشاشة أنكسرُ كقشّة عند أوّل ريح
A+ A-

آخر الليل

آخر الليل،

حين تتعطّل الكلمات فجأة كسيّارة في منتصف الطريق

وتخرس الدّنيا كأنّ أحداً أطبق يده بشدّة على فمها،

خُذْ سيجارة طويلة الأظافر وأشعِلْها،

واسرَحْ وامرَحْ بين خيوطها قدر ما تستطيع،

ثمّ إفتَحِ الشبّاك ودخِّنْها إلى آخر درفة،

حتّى إذا ما باغتك أوّل ضوء يلامس السّماء لم يجد منكَ إلّا خصلة دخان مبعثرة على وجه الفجر.

*********************

قصيدة إلكترونيّة

كان بودّي أن أفعل ما يفعله الكثير من شعراء اليوم: أقف وأتلو عليكم قصيدة من هاتفي المحمول. لكنّه انطفأ فجأة لا أعرف كيف. ربّما ماتت بطّاريّته من انتظار شحنها ولم أنتبه. ربّما أُصيب بذبحة، بجلطة، بسكتة وسكت. فاسودّت شاشتُه كأنّ أحداً سكب عليها قهوة مغليّة بشدّة. ثمّ خرج من بين خياشيمه خيطٌ لزِج من المعلومات، والأرقام، والتطبيقات، والتنزيلات، والفتاوى الإلكترونيّة، وحرف الواو من كلمة غوغل، وسربٌ من الكلمات الطائشة التي كنت قد نسيتُ أن أدوّنها.

أمّا القصيدة التي في داخله- والتي كان بودّي تِلاوتُها عليكم من البداية، فهي قصيدة خفيفة كسحابة صيف، وصغيرة كنقطة ذهب، وكلماتها ضئيلة نحيلة معها فقر دم. ورغم ذلك، وبصراحة، لم أحفظها غيباً (فأنا أكتب كي لا أحفظ)،

لكنّها،

على ما أعتقد،

تشبه الصّمت قبل العاصفة

والموت بعد الجنس

والحرب التي ترفع رايتها بسلام تام

والخوف الذي يزرعنا

والذّعر الذي يحصدنا،

وأذكر،

حسب ما أذكر،

أنّها تتحدّث عن

الويل بين كلمتيْن

والهول بين جملتيْن

والليل بين سيجارتيْن

والأرض بين رصاصتيْن

والحلم بين حَلمتيْن،

... إلى الكثير الكثير من صيغ المثنّى الذي يخاف أن يبقى مفرداً، لوحده، مثلي،

أنا الذي لا أزال أكتب على الورق

وحتّى اليوم لا أزال مثل الورق

أنكمشُ،

وأنفلشُ،

لذلك دَعوني

من فوق صفحتي التي لا تزال بيضاء

دَعوني

أقفز كمهرّج

وأومىء لكم بورقة أخرى فارغة.

*********************

محاولة

لا يطلع عشب يابس إلّا على طريق موحشة وأنا طريق موحشة ولا طريق لمن تنادي،

كلّ يوم تشرق الشمس وتغيب وأنا شديد الحساسيّة حيال تقلّبات الوقت والفصول كبارومتر طازج،

وأنا فائق الهشاشة أنكسر كقشّة عند أوّل ريح

أذبح الهواء من الهبوب إلى الهبوب،

وكالحيوانات البرّية في الشتاء أبحث عن موئل للبقاء،

أدور في مكاني كمفتاح صدىء،

أسهو بلا سبب،

أمتعض من أيّ شيء،

وأكزّ على أسناني كمحارب قديم لا يزال يطرد الكوابيس من نومه كالذباب.

الذئب الذي لم يتدجّن عاش حزيناً في القصص لأنّه لم يستطع مرّة أن يكون هو الرّاوي رغم أنّ الأولاد اطمأنّوا إلى لمعان فروته وناموا على وهج الغابة في عينيه،

واللغة التي أردنا إمساكها ولم نستطع انزلقت من بين أصابعنا وضحكت مقهقهة في آخر السطر كأنّها تقول: أنتم هنا لتحاولوا لا أكثر، ونحاول.

*******************

أمنية

ليت الأرض تهدأ لحظة لأصبّ لها كأساً أضعها على حرف الشبّاك حتّى إذا ما عادت من دورانها تجلس وتحتسيه بهدوء عند المغيب.

ليت الفأس تستحيل شجرة ذات يوم

هكذا يعود الحطّاب إلى بيته في المساء أخضر تماماً كالغابة التي قصدها في الصّباح.

لا أريد من النهار إلّا ليله،

ومن الليل نجومه المترعة فوق طاولة السّهر،

لأربط الوقت بعقرب السّاعة الصّغير

ومن دون أن ينتبه أحد أهرّب الكبير،

ثمّ أُشعل فتنة اللهو حيثما أجلس

أُهبِّط كتفيّ وأذرّ رماد سيجارتي في عيون الساحات.

هناك،

في مقهى مهجور،

كرسيّ ضجرانة

وطاولة مقشورة لي كلمتان مع المنفضة الفارغة فوقها،

آتٍ أنا.

********************

صلاة

بعضٌ من غيوم، نحن

نعبر مُسرعين كمُضاجعة عشوائيّة خاطفة: ضربة ضربتان وانتهى الموضوع... وحلّ الليل وأتى النّهار،

ولا نتوقّف

حتّى لو نادانا أحد ندير له أذننا الطرشاء كأنّنا فعلاً لم نسمعه

ونُكمل طريقَنا في تلك السماء الممتدّة منذ متى،

يا حياةُ

يا دخان الرّغبة وبخار الشهوة

لُفّيَني بأقمطة السرّ البيضاء

لأبقى ساخناً وبريئاً ككذبة

ويا عمرُ

إلى أين أنتَ ذاهب ولي في ذمّتك كلّ سنواتي

الطويلة والقصيرة

التي مرّتْ بِرَمشة

والتي ربضت ثقيلة على فوهة قلبي

والتي خمدتْ كبركان كسول ماتَ وطلعَ الدّخان من فمه

والتي لا تزال تعود مستعِرة كحرائق الغابات المفتعَلة

وتلك التي تلوح في الأفق...

والأفق وَهْمٌ آخر.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم