الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

الشِّعر الذي لا يموت يبدأ من الصِّبا

المصدر: "النهار"
باسل الأمين
الشِّعر الذي لا يموت يبدأ من الصِّبا
الشِّعر الذي لا يموت يبدأ من الصِّبا
A+ A-

هذه الأيّام باردةٌ جدّاً. أفكّر من أين يجيء الشعر؟ كيف وصلت الأمور إلى هنا؟ الفتى الذي شَعَر في صفّه الأوّل أن رفاقه يرتكبون خطأً فادحاً في حصّة الرسم. كانوا جميعاً يرسمون أولاداً بلا رقبة. كانت الرؤوس على الدفاتر مزروعةً بين الأكتاف. هناك في تلك اللحظة وعلى كرسيّه وطاولته فهم ماذا يعني أن تخلق شيئاً، أن تبدع، أن تتمايز. خرج من جسده لبضع لحظات. أحسّ أنه أوحد صبيٍّ في هذا العالم. مثلما قال أدونيس يوماً عن الوحدة: "وحِّدْ بيَ الكون، بحرّيتي/ فأيّنا يبتكر الثاني؟".

تفرّجَ على نفسه، وتحسّس رقبته. عاد إلى نفسه ورسم أولاداً صغاراً برقبة تشبه رقبته. قال: سوف أكون يوماً رسّاماً عظيماً.

الأشياء كانت تجرُّ بعضها. الوحدة أثقل من البرد، أثقل من معطفٍ صوفيّ يغطّي القلب. كنت أنظر من شرفة المطبخ. كان هنالك أولادٌ يلعبون في الرمل في أرضٍ غير مزروعة (البورة).

علمت أنّ قلبي يشبه تلك الكرة التي يركلونها. لكنها حرّة بما فيه الكفاية لتتحوّل إلى عصفورٍ ما ينده لي. قرّرت الانضمام إليهم، أردت أن أعرف؛ كيف يخترع أولاد الشارع السعادة؟ أتذكر أني قرأت يوماً نصّاً لشارل شهوان عن مباريات كرة القدم التي تشبه القصائد، يقول فيه: "إبن الخواجه يلعب مع زعران الحيّ، ما كانوا حقاً زعراناً، مجرّد أولاد فقراء أو متوسطي الحال كما كانت، وهي عموماً حال سكان شبه جزيرة لبنان".

لم أكن ابن خواجةٍ حقّاً، والديّ ليس لديهم سوى يدٍ طائلةٍ لحياكة الحزن. كانت الأرض الترابية صغيرةً للغاية، تحيطها الأشجار من كل صوب. تبدأ بمدخنة حجريّة قديمة وتنتهي بحائط حجريّ وخزّان للمياه يفصلان الملعب عن غرفة موتورات الحيّ. سجّلتُ أهدافاً كثيرةً في تلك المدخنة، ولم تتهدّم. فهمت ماذا يعني أن تكون شقيّاً. أحببت الشارع، وألفت التمايز بعد كل مباراة كنت أفوز فيها. أحببت تلك اللّعبة وأولئك الزعران الذين ذهب كلٌّ منهم الى مدخنته. الملعب الصغير ذاك غرسوا فيه مبنىً كبيراً الآن، غرسوا مسماراً في قلبي.

كنا نشبه منظّفي المداخن حينما كنا نلعب ليلاً لعبة الغميضة. الذكيّ بيننا كان الذي يختبئ داخل المدخنة. كبر حبّي للمنافسة، للمباريات وركلات الجزاء. حتى في تلك المرّات التي كان يفوز فيها رفيقي نزيه، كان يعطيني أملاً زائداً بأني سوف أتفوّق عليه. كان التراب الذي يملأ قدميّ، يملأ صدري وشعري أيضاً. ولو حملت التراب الذي علق على جسدي طيلة تلك السنوات، لبنيت الآن ملعباً لي ولرفاقي في الحيّ. نزيه يدرس الآن الطبّ أو ما شابه ذلك في إيران، وأنا أكتب الشعر أو ما يشبه ذلك، هنا في المكان نفسه المقابل لملعب الرمل. لا يوجد أي صرخاتٍ الآن، ولا شتائم وخسارات. والكرة التي تشبه قلبي ما زالت معلّقة على إحدى الشجرات الصامدة. كلّما نظرت إلى هناك، تذكرت أني خلقت آمالاً كثيرة وانتصارات وإنجازات تخصّني وحدي. في البادئ عرفت كيف أرسم رقبةً، كيف أدع الهواء يتدفّق بحريّة إلى السماء. بعدها تعلّمت كيف أقفز في الهواء وحدي لأنطح الكرة وكأني في مباراة عالميّة؛ كيف أفوز.

ماذا بعد كلّ ذلك. أفكّر. الشعر يجيء خفيفاً مثل هواء الحريّة.

يجيء دافئاً مثل الشارع الذي أحبّني. الذي هربت إليه بتمرّدٍ تامّ. تعلّمت فيه كيف أحمل سكيناً. وأنّ لكل مرحلةٍ سكّينها. هذه أيّام الشعر، سوف أذبح فيه مَن هدم الملعب والمدخنة. سوف أذبح فيه مَن قال إني صغيرٌ أو ضعيف. سوف أتذكر دائماً ماذا يعني أن أخلق شيئاً بين الحب والتمايز، كأن أزرع قلبي زهرة منفردة في كل الحقول التي مررت بها. سوف أظلّ أتذكّر كيف أن أبي لم يسافر يوماً إلى ألمانيا، بل فضّل أن يهجر العالم ويشرب البيرة وحيداً في الروشة. سوف أكون مثل أبي، أكتب الشعر وحيداً وأنا أشرب البيرة في أمكنةٍ أحبها. لا أحد يؤلف لنا الظلال غير أنفسنا يا أُنسي، وأماكننا لا شيء يوسّعها غير الشِّعر الهادئ. القصائد لا تموت، كان شارل يعي ذلك تماماً، لذلك استرسل في كلامه عن أيّام صباه. الشعر يجيء من الصِّبا: "ثم كان هناك الياس الدبّ وشقيقه الملتوي كسروة عليلة. هنالك أيضاً ابن فدوى الطيّب، وما زلت الى الساعة نادماً على تحطيم وجهه. ثمّة غيرهم ولكني لا أذكرهم. هؤلاء كانوا رفاق الحيّ، فريق الحيّ، أُسود الكسليك كما كنا ندعو فريقنا، أولاد العراء والبحر وضحايا الحرب الآتية...".

يدي القصيرة لا تسعفني حين يضيق العالم، وحده الشعر يفعل ذلك. في أيّام الصِّبا كان لنا رأسٌ صلبة لضرب الكرات، ثم جاء الشِّعر، بتنا نقول: الرأس الصلبة ليست مثل قلبي قابلةً للكسر. الحبّ لا يموت ولو جُرِح، مثل زجاجٍ نمسحه بوداعاتنا. الشارع ينتهي بعد أن نعبره لكن لا ينتهي الباص. لا ينتهي الوحل. لا ينتهي الثقب الذي في الشارع: قلبك الذي ترتديه في كلّ يوم، الذي تخلعه في كلّ يوم، تعب من نفس الطرقات المثقوبة. قلبك المثقوب خذه للإسكافيّ.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم