الثلاثاء - 16 نيسان 2024

إعلان

مَن أسقط كلّ هذه الغيوم وأشعل كلّ هذا الماء؟

المصدر: "النهار"
فوزي يمّين
A+ A-

أن تقفز من عين اليأس لتتمسّك بأوّل أمل عابر كغيمة ومُسرِع كسيّارة أجرة، ولا تستطيع.

أن تنحني بهدوء تحت سقف هذا العالم المترجرج لتلتقط ما تبقّى من زهرة عمرك، وما بقيَ شيء.

أن يكون مكان ولا يكون زمان.

أن يكون زمان تطردك فيه البيوت وتستقبلك المقاهي. تفتح شبابيك فناجينها وتغطّسك، ثمّ تسحبك لتغدو مُستوياً على كرسيّ في ركن، مُشعلاً سيجارتك، مدقوقاً كوتد يدخّن خيمته. والحياة تمرّ في الشارع بمحاذاتك، زجاج بينك وبينها، شفّاف. وكلّ ما قرأتَ عنه طويلاً في الكتب، تنظر فتراه على الطريق مذبوحاً كدجاجة.

أن تفتح، من وقت لآخر، هاتفك المحمول، وتحدّق فيه كما في بئر عميقة، متسائلاً: مَن أسقط كلّ هذه الغيوم وأشعل كلّ هذا الماء؟

السكّين التي تخرق اللحم والرّوح، الندبة القديمة في وجه الأرض، العين المتوتّرة في قزحيّتها: هذا طقسُك في الأيّام العاديّة جدّاً.

أن تتحوّل أحياناً إلى ثور ينطح البشريّة، تلتهم الأكل الطيّب والنبيذ الفاخر والنساء المكتنزات.

وأحياناً إلى شاعر عظيم يصعد بقصائده إلى رؤوس الجبال ويقذفها من فوق كألسنة البراكين كيفما اتّفق ولا يستكين له بال حتّى يحرق دين الشِّعر.

وأحياناً إلى قشّة من التّبن، جوفاء، جافّة، ضئيلة، جديرة بأن تُلقى على الأرض وتذهب بها نسمة ريح.

لكن دائماً أن تلعب،

وتعاود اللعب،

على خشبة مسرح كلّ يوم،

ثمّ تسقط،

أنت تلو أنت،

في علبة العدم.

******


بلا يدين

ذات مرّة كان لي يدان مددتُهما إلى المغيب فغابتا، ولم يعودا إلّا في اليوم التالي باكراً مع الشّمس حين أشرقت.

على ما أذكر، ليلتها، بقيتُ بلا يدين،

صرتُ أكتب بعيني كما كان يقول عنّي صديقي قبل أن أفقد يديّ حتّى،

أحصي النّجوم بالسهر

والحبّ بالقمر

وكلفة الحياة بمجّانيّة الموت،

وما عدتُ أعدّ إلى العشرة، خصوصاً مع النساء،

وصرتُ أفتح الباب بالهواء، والمعلّبات بالشهيّة المفقودة، والجرح بالوردة الذابلة،

والملائكة التي علّمتني جدّتي أنّ أعدّها على أصابعي: هذا جبرائيل في يده زنبقة يطلّ من الشبّاك ويبشّر، ذاك ميخائيل حارس الرّحلات الطويلة الشاقّة، وذلك رافائيل النّاقر على الكمان ومُفرِح القلوب الدامعة،

الملائكة تلك، صرتُ أعدّها بأجنحتها،

ثمّ حين تعبتُ وغفوتُ، رأيتُ حلماً بلا يدين مثلي،

مرّت فيه عصافير مقطوعة من شجرة، وفراشات مقصوصة من زهرة،

حاولتُ أن أمسكه فلم أستطع بلا يديْن، فعضضتُ عليه بأسناني فانكسر وبقي طعمه تحت لساني... حتّى اليوم،

وطال الحلم، وطال الليل،

والليل مطعم مفتوح طوال الليل فيه لمبة واحدة: تنطفىء وتضيء، تضيء وتنطفىء...

إلى أن يأتي الفجر فتحترق.

******

جنون

كلانا في المنفى يا صديقي،

أنا وأنت،

هنا وهناك،

وإنْ كنتُ أنا- كما تدّعي أنت- أخرج أكثر منك إلى الضّوء

لكنْ كلُّه عتم بعتم، صدّقْني،

لذا يليق بنا هذا الجنون

مذ قطَعْنا شَعرة معاوية وشِعرة الأرض

العاهرة

المبتذلة

الرخيصة

السّاقطة

السّافلة

التي تدور حول عشّاقها تأكلهم ولا تهضمهم فيبقون معلّقين في جوفها،

الرقّاصة الفاشلة، المنتفخة البطن، المتورّمة الوركين، وتخشّ بدنانيرها بين نهديها المتهدّلين من شمال القرف حتّى جنوب الغثيان،

ويليق بنا هذا الجنون مرّة أخرى

وفي كلّ مرّة

لنخرق صفحاتنا السّميكة المتراكمة علينا كغسيل آخر الأسبوع

وننشد الحياة الغائبة التي طالما ركضنا في وديان أعمارنا وقذفنا قصائدنا كالحجارة لنصيبها،

وفي كلّ مرّة

علينا أن نعيد الصّياغة لا ليفهم أحد بل لنُرضي قلقَنا المميت

وأن نضحك كثيراً ليحسب العمر أنّنا سعيدان فيمرّ بسلاسة من بين أسناننا

وأن نرمي نكاتنا للجائعين إلى الضّحك كالخبز إلى البطّ

وأن نرفع هشاشتنا الجميلة على رأس السطح كمنشر غسيل لمّاع

وأن نكون زرقاوين لنخدع البحر والسماء ضربة واحدة

وخضراوين لعلّ حديقة ضئيلة تنبت قرب غضبنا،

وإذا جِعْنا أكَلْنا جسديْنا

وإذا عطِشْنا شَقَقْنا غيمَ روحيْنا وشرِبْنا،

كلّ هذا ولنا قلبان أبيضان ناصعان كشقّ اللفت

وطويلان كسيجارة هذا الليل الذي لا ينتهي.

*****

اقرأ للشاعر أيضاً: سعيد عقل: لكَ هذا الريحُ عودٌ والغماماتُ وترْ

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم