الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

تجلّيات الحبّ: دوروتي بيرلنغهام وآنا فرويد مثالاً

نائل بلعاوي
A+ A-

يكشف الحب عن طاقة دفينة تختبئ في مطارح ما من الجسد، في القلب، في الروح، بين خلية وأخرى، أو حيث تشاء الاساطير والثقافات والالسنة. وقد يخلق الحب مثل تلك الطاقة العجيبة، يوجدها ويمنحها صفاتها واسباب صعودها إلى المراتب الاعلى لذة وجاذبية. هو الذي يكشف، أو هو الذي يخلق، لا فرق، فهو المسؤول في الحالتين.

وهو الابداع فعلاً وليس مجازاً، لكنه، بحسب الاعراف والتقاليد البشرية جميعها، وبحسب الشطر الاكبر من الفنون والاداب والاساطير، مشروط الصفات والاجناس، فنحن لا نستدعي عند ذكر تلك المفردة الصاخبة، الحب، سوى ذكر وأنثى، نتصوره ونتصورها ولا نفترض غيرهما.

لكن الحقيقة هذه، على الرغم من سطوتها وانتشارها، تبقى ناقصة وغير شمولية الرؤية الانسانية ولا الوقائع التي نعرف. هناك أمثلة يجب ألاّ تُخفى عن أشكال أخرى من الحب بين الذكر والذكر، والتاريخ حافل بمثل تلك القصص، أو بين المرأة والمرأة، والامثلة هنا شحيحة، على الرغم من كثرة الاشارات التاريخية والحديثة إليها.

لعل في حكاية دوروتي بيرلنغهام واَنا فرويد ما يدل بقوة عليها، ليس انتشارها المسكوت عنه فحسب. بل قدرتها على تقديم نموذج من طراز مختلف وخصوصي.

مبكراً سوف تكتشف اَنا فرويد (1895 – 1982)، الابنة الصغرى لسيغموند فرويد (1856 – 1939)، طبيعتها العاطفية وانجذابها الحسي نحو مثيلاتها، وبجرأة سوف تكشف عن تلك المشاعر في رسالة إلى ليو سالومي، الصديقة التي تكبرها بسنوات عديدة، والمقربة منذ وقت طويل من الاب الشهير، فرويد. تقول: "ابتعد عن الرجال الذين يحاولون الاقتراب مني، وأقترب بسعادة من الاناث. أنا مثلية كما ترين، ولا أخجل من هذا، بل احب ما أنا عليه". في مقطع اخر من الرسالة تضيف: "عليً التحدث إلى والدي حول هذا الأمر". تجيبها سالومي: "أعتقد أن والدك يعرف عنك الكثير، لكن اهتمامه ينصب على جانب آخر من شخصك".

الجانب الاخر المقصود هو ذاك الذي يعرفه الاب العالم ويراهن عليه في شخصية ابنته المتيمة بعلوم النفس والذاهبة بثبات نحو بدايات العثور على ذاتها المتفردة هناك، بعيداً من المنجز الشخصي للأب الشهير، ومن وحيه في أن واحد. وهو الامر ألذي سيعلن عن نفسه بسرعة لافتة، حين وضعت اَنا وظيفتها جانباً، معلمة مدرسة ابتدائية، وتفرغت لدراسة علوم النفس والمشاركة المكثفة والفاعلة في المؤتمرات العلمية التي يشرف الاب على تنظيمها في فيينا، كما في بازل وبرلين. بسرعة مماثلة أنهت دراستها الجامعية وافتتحت عيادتها الخاصة المتخصصة بعلاج الامراض النفسية عند الاطفال.

على الجانب الاخر من المحيط، في نيويورك تحديداً، كانت سيدة أميركية ثرية تعيش حكاية مختلفة تماماً عن حياة اَنا. حياة عادية لزوجة وأم لأربعة اطفال يصاب اصغرهم بمرض جلدي نادر يدفع بالأم إلى البحث عن جميع وسائل العلاج المتوفرة آنذاك، ولا تجد. إلى حين تلتقي بطبيب نفسي يخبرها بإمكان رد المرض الجلدي ذاك لأسباب نفسية مرضية ومعقدة، ناصحاً إياها بضرورة التواصل مع طبيبة نمساوية متخصصة تدعى اَنا فرويد في فيينا، فتفعل.

تلك السيدة الاميركية هي دوروتي بيرلنغهام (1891 – 1979)، الفضولية الجميلة التي لن تتردد طويلاً بمراسلة اَنا وعرض حالة إبنها عليها، فاتحة من هناك باباً لعلاقة مدهشة تبدأ بالرسائل المكثفة ولا تنتهي عند قرار بيرلنغهام السفر إلى فيينا للقاء اَنا وتكليفها مهام الاشراف الطبي على إبنها المريض.

في العام 1924، بعد سلسلة طويلة من الرسائل مع فرويد، حسمت بيرلنغهام أمرها وسافرت بصحبة اطفالها إلى فيينا، وكانت حياتها قبل ذاك بوقت قصير قد تعرضت لهزة عنيفة إثر إقدام زوجها المصاب بأعراض الفصام الشديد على الانتحار، لتلتقي باَنا التي ستبداً على الفور بتشخيص حالة إبنها والاشراف عليه، وصولاً إلى لحظة شفاء الطفل تماماً من مرضه الجلدي النادر، بأدوات علم النفس وحدها، وبجهد هائل من الطبيبة المبدعة، اَنا، التي سيشكل نجاحها ذاك حافزاً لا يرد عند الأم، دوروتي، لدراسة علوم النفس بدورها والتخصص بالفرع المثير نفسه: الطب النفسي للأطفال.

تلقت بيرلنغهام بداية دورات تخصصية على يدي سيغموند فرويد، ثم على يديً إبنته، لتنتقل من هناك إلى القلب من حياة عملية تكللها علوم النفس بشجونها وأحلامها وتطبيقاتها إلتي لا تعد: افتتاح مركز طبي للامراض النفسية عند الاطفال في فيينا، بصحبة اَنا بالطبع. وعيادة طبية خاصة، مشتركة مع اَنا. إلى جانب حضورها العلمي في المؤتمرات والمجلات المتخصصة، بما هي كاتبة وناشطة في تلك الحقول الشائكة والمثيرة.

تحولت السيدة الاميركية الثرية وبسرعة تثير الاعجاب إلى باحثة نفسية متميزة في حقبة نمساوية استثنائية على صعيد ولادة الافكار العلمية الجريئة والريادية الخاصة بعلوم النفس عموماً، ولم تكن محض هاوية آثارها نجاح تلك العلوم بعلاج إبنها، فقررت دراستها: "موهبة فذة سوف تكشف عن نفسها في يوم ما"، قال فرويد في وصفها، و"هي مبدعة، اعتقد أنها ولدت مبدعة"، اضافت إبنته.

وكانت فعلا مبدعة، جريئة ومتفردة، هي التي اقدمت على ولوج غمار علوم النفس في مرحلة متأخرة نسبياً من حياتها، وتألقت هناك. وهي التي قررت هجر بلادها الام والاقامة الدائمة في فيينا، برفقة اربعة من الاطفال. وهي التي اكتشفت مثليتها الجنسية في لحظة فارقة من حياتها وأعلنتها. وهي التي اقدمت وبلا تردد على مشاركة عائلة فرويد هروبها التراجيدي من فيينا إلى لندن إثر وقوع النمسا في قبضة الاحتلال الالماني النازي في العام 1938، لتعيش معهم في بيت لندني واحد يضم عالماً من طراز سيغموند فرويد وعالمة من عيار إبنته اَنا، الصديقة والعشيقة والشريكة إلتي سبقتها شهرتها إلى لندن والعالم إثر صدور كتابها الفاتن " الأنا وأليات الدفاع" في العام 1936، وهو عبارة عن قراءة إستكشافية فريدة لتلك الاليات وتحليل دوافعها ومصادرها.

توطدت العلاقة الخاصة أكثر وأكثر بين اَنا ودوروتي في لندن وتحولت إلى مصدر ملهم لعديد الاعمال والمنجزات البحثية والعملية: دراسة لهذه تتبعها دراسة لتلك. كتاب لاَنا يتبعه آخر لدوروتي، ثم افتتاح مشفى خاص ومشترك لعلاج الاطفال الذين فقدوا ذويهم في الحرب العالمية الثانية سوف ينال الكثير من الشهرة والاحترام في العاصمة البريطانية، كما سيتحول مع الوقت إلى نموذج كوني يحتذى، ناهيك عن الدور المركزي الذي لعبته تلك التجربة العملية في إثراء المادة البحثية التي ظهرت في كتاب بيرلنغهام، "العماء في عالم مبصر"، المتخصص بدراسة احوال الاطفال الذين يفقدون البصر أو يولدون بدونه، وهو عمل بحثي متميز بنكهة شاعرية تعكس شفافية العلاقة لصاحبته بفكرة الوجود عموماً ولا حدود المأساة التي تلتف من حوله.

هي علاقة فريدة وملهمة بين اَنا ودوروتي، هكذا بدت وعلى ذلك النحو البليغ تجلت، وهي إحالة كبرى على المعنى العميق لفكرة الحب حين تصبح مصدراً خلاباً للإبداع الحياتي، كما العلمي والادبي والانساني بالمطلق. فالحب ملهم والحب خالق وخلاق، والحب قبل هذا وذاك بلا شروط أو مرجعيات جنسانية محددة وصارمة، تلك التي وُضعت ولم توجد أصلاً، وما العلاقة بين السيديتين المذكورتين سوى الدليل العميق على لا محدودية اشكال الحب وقدرة بذرته الاصيلة على الدفاع عن نفسها ومكوناتها الاولى وغير الخاضعة للقيود وأهواء الحراس والعسس.

دوروتي بيرلنغهام واَنا فرويد حكاية خلابة عن الحب المتخفف من أعباء الجنسانية، حكاية عشق يصعد بصاحبتيه إلى سقف التماهي المنشود بين المحبين، إلى مدار التلاقي الروحي المبدع واللانهائي، ذاك الذي تجلى في استمرارية العلاقة وألقها بين السيدتين وإلى لحظة الموت: "احرقوا جثتي وضعوا رمادها في آنية فضية إلى جانب الانية التي ستضم رماد اَنا". بهذه الوصية الشفيفة ودّعت دوروتي رحلتها الحياتية الشيقة، وبهذه الكلمات أكدت اَنا الوصية: "لا رغبات لديّ ولا وصايا سوى تلك التي ذكرتها دوروتي سابقاً".

وكانت دوروتي قد سبقت اَنا إلى الموت بثلاثة أعوام، في ذلك البيت اللندني المشترك.

هو الحب، بهذه الكلمة يمكن وصف العلاقة الاستثنائية بين العالمتين المبدعتين، وتلك هي تجلياته الاعلى والاشد قرباً من جوهره الاصيل: التنوع، وغياب الشروط والمرجعيات التي، اكرر، فُرضت ولم تُوجد أصلاً.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم