الخميس - 18 نيسان 2024

إعلان

"مقالات متقاطعة": دراسة لشخصيّات تعكس شخصيّة كاتبها

المصدر: "النهار"
مارلين سعاده
"مقالات متقاطعة": دراسة لشخصيّات تعكس شخصيّة كاتبها
"مقالات متقاطعة": دراسة لشخصيّات تعكس شخصيّة كاتبها
A+ A-

"مقالات متقاطعة" لأستاذ العلوم اللغويّة، مدير جامعة الجنان – فرع صيدا، الدكتور محمد أسعد النادري، كتابٌ من ضمن سلسلة منشورات جامعة الجنان، صادر عن المكتبة العصريّة - صيدا، طبعة أولى 2018، يتضمّن مجموعة مقالات للنادري، كتبها في مناسبات مختلفة؛ وقد قسّمها، كما يظهر جليًّا في الفهرس، إلى ثلاثة أقسام. القسم الأكبر منها يتناول مواضيع لغويّة، يَشعر القارئُ وهو يتابع المقالين الأوّلين منها أنّه يشارك في حصّة دراسيّة، ويأخذ العلمَ على يدَيّ علّامة متمرّس بعلم اللغة. القسم الثاني أدبيّ، يتناول أسماء أدبيّةً مرموقة، موجّها اهتمامه لكشف جوانب مهمّة لدى كلّ شخصيّة. أمّا القسم الثالث والأخير، فهو في علم الكلام، يتضمّن مقالة واحدة، يعرض فيها كيفيّة تفسير معتزلة بغداد ومعتزلة البصرة لمسألة لطف الله.

يمكننا أن نلاحظ، بمجرّد النظر إلى الفهرس، الاختلاف في حجم الأقسام الثلاثة، وقد أوضح النادري في المقدّمة سبب عدم التوازن هذا، كون المقالات كُتبت في مناسبات مختلفة، كما اختلفت طبيعتها النصيّة، ما أوجب ترتيبها وتوزيعها بشكل متجانس، أكان بالنسبة لتاريخ كتابته لها أو لموضوعها. ولكن، على الرغم من تنوّعها واختلاف مضامينها، إلّا أنّ "العلاقة فيما بينها علاقة وثيقة، حتى ليكاد يصعب على المرء في كثير من الأحيان أن يفصل بين هذه الحقول: فاللغة أداة الأدب المرتبطة بدلالات الفكر، والأدب حصيلة توظيف اللغة توظيفًا جماليًّا إبداعيًّا راقيًا"، وذلك وفق تعبير النادري نفسه في مقدّمة الكتاب (ص 10).

إذًا، هي مقالات متقاطعة، متّصلة في ما بينها بالرغم من اختلاف مضامينها. ففي المقالة المعنونة "داغستان: جبل اللغات" (ص63) تطالعنا خطبة شامل أسد داغستان، التي تعكس تعلّقًا شديدًا بالأرض، فنراه يشحذ الهمم للدفاع عنها، مستخدمًا لغة تحاكي المشاعر الوطنيّة لدى رجاله المقاتلين، وتجيّش عاطفتهم تجاه قائدهم بوجدانيّة ظاهرة، بعدما صوّر لهم نفسه تحت التراب، مؤجّجًا فيهم القوّة والاندفاع والبسالة: "قاتلوا من أجلها، وحافظوا عليها، وليهدهد صليل سيوفكم نومي الأبديّ". (ص 63) هي مقالة مقتضبة ودسمة في آن، لما تتضمنه من معلومات وفيرة عن تاريخ داغستان؛ وعن لغاتها التي وصل عددها "إلى ما يقارب الأربعين لغة" (ص 65) ؛ وعن نموّها السكّاني عبر الزمن، بالرغم ممّا شهدته، على مرّ تاريخها، من حروب وإبادة لشعوبها.

وكما ركّزت مقالة داغستان على تعدّد اللغات، نجد في المقالة التي تليها تركيزًا على اللغة أيضًا من خلال "نقاش هادئ حول الفصحى والعامية في وسائل الإعلام المرئيّة" (ص 73)، هذا الموضوع الذي شكّل باستمرار نقطة خلاف وجدال بين مؤيّدي الفصحى من جهة وحاملي لواء العامّيّة من جهة أخرى. إلّا أنّ طرح النادري اختلف عما درج الناس عليه من خصام وجدال عند طرح إشكاليّة الصدارة في استخدام العامّيّة والفصحى، موليًا العامّيّة أهمّيّة كما الفصحى، مؤكّدًا أنّ "العامّيّات أو الدارجات إنّما هي مجبولة بتاريخ هذه الأمّة وتراثها وحضارتها"... وأنّ "كثيرًا من مفرداتها وأساليبها وصيغها فصيحة" (ص 74)، كلّ ذلك بأسلوب مبسّط، سهل الاستيعاب، إذ ينطلق من أمثلة ملموسة، يراها الناس بشكل يوميّ عبر وسائل الإعلام، أيًّا كان مستواهم العلمي والفكري. مؤكّدًا أهمية خلق توازن لاستخدام العامّيّة والفصحى في وسائل الإعلام، عارضًا لبعض النقاط الأساسيّة أو الضروريّة التي تضمن سلامة استخدام الفصحى، والتي يعتبرها ضرورة وحاجة للتواصل والتفاعل مع الحضارات الأخرى عن طريق الترجمة والنقل. وينتهي الى القول: إنّ "مستقبل الفصحى هذا لن يكون على حساب العامّيّة التي علينا أن نعترف – بمنطق الواقع والتاريخ، وبمعزل عن العواطف والأمنيات – بأنّ لها دورًا في حياتنا يتكامل مع دور الفصحى، دون أن يلغي أحدهما الآخر" (ص 80).

يستتبع هذا المقال بمقال ذي صلة وثيقة به، في موضوع يشكّل تهديدًا لمستقبل اللغة، ويمكننا أن نستنتج مضمونه من خلال عنوانه: "اكتبوا اللغة بحروفها"، فقد شاع، عبر وسائل التواصل، استخدام الأحرف اللاتينيّة مكان الأبجديّة العربيّة، لكتابة الجُمَل العربيّة.

وقبل أن ينهي القسم الأوّل من الكتاب - الذي جعله في اللغة - بالحديث عن قرار "المجلس التنفيذي للأونيسكو في دورته 190 تكريس يوم 18 كانون الأول يومًا عالميًّا للغة العربية" (ص 95)، يوجّه تحيّة لأستاذه العلّامة الدكتور عبده الراجحي كما عرفه، يذكر فيها شمائله ومكانته كلغويّ وأستاذ جامعيّ، بغية منحه ما يستحقّ من التقدير، أو بمثابة ردٍّ جميل، لما بادره به من اهتمام وتقدير حين كان تلميذه، إذ اختاره من بين الكثيرين ليكون أستاذًا، إلى جانبه، في جامعة بيروت العربيّة.

القسم الثاني من الكتاب، الذي صنّفه النادري في الأدب، يتضمّن ثلاثة مقالات، يتحدّث فيها عن ثلاث شخصيّات كان لها دورها في عالم الفكر.

في المقال الأوّل يتناول طه حسين، ملخّصًا سيرة حياته، متوقّفًا عند معاناته - إذ حَكَم عليه الجهل، المستشري في ذلك العصر، بأن يبقى كفيفًا طوال عمره - مشيدًا بسعيه لإثبات وجوده بالرغم من عماه، وإصراره على العلم، وصولا الى الحديث عن التناقضات الكثيرة في شخصيّته، محدّدًا اثنتي عشرة شخصيّة له، جمعها تحت عنوان: "طه حسين: عبقريّة الشخصيّات المتناقضة"، مشيرًا إلى تبدّل مواقفه وتعدد الازدواجيّات في شخصيّته؛ بين الشخصيّة التي تسعى لتعويض النقص الناتج عن الإصابة بالعمى والأخرى المسلّحة بالمعرفة الغربيّة، إذ اعتمد المنهج الديكارتي في محاولة للثأر من المعرفة الشرقيّة (ص 104)؛ وشخصيّة الشيخ الصعيدي الأزهري والمصري العصري الباريسي (ص 107)؛ وشخصيّة الناقد المحافظ والناقد العنيف المتطرّف (ص 109)؛ وشخصيّة الفقير الثائر على الأوضاع السياسيّة والسياسي المحسوب على حزب أرستقراطي (ص 114)، وهو يُرجع هذه الازدواجيّة تحديدًا الى المصلحة الذاتيّة، متوقّفًا عند انتقاده لحزب الوفد ثم انضمامه إليه لاحقًا (ص 114-115) كما يشير الى إدانة طه حسين للمتنبي، وكرهه لابن خلدون الذي يعتبره انتهازيًّا (ص 115-116)، غامزًا بذلك للمثل القائل: "مَن بيته من زجاج لا يراشق الناس بالحجارة"؛ ثمّ شخصيّة العالم المسلم المتمسّك بالشريعة غير المتساهل والوطنيّ العلماني الذي يفصل بين الدين والدولة (ص 116)؛ وأخيرًا، شخصيّة العالم الأديب الناقد الذي لا يخضع إلا لسلطان العقل والناقد الذي يميل الى أديب ويكره أديبًا آخر (ص 117).

ولكنّه بعد هذا العرض التشريحيّ المُفَصّل والدقيق لشخصيّة طه حسين، يخلص النادري الى التأكيد: "إنّ طه حسين لم يكن إنسانًا عاديًّا، ولا أديبًا عاديًّا. لقد كان إنسانًا بامتياز، وأديبًا بامتياز." مثمّنًا أدبه وعلمه وما تركه للأجيال خلال مسيرته الفكريّة.

المقال الثاني يتكلّم على الشاعر القروي، رشيد سليم الخوري، في محاولة لإيفائه ولو القليل من حقّه، بعدما راح - وفق تعبير النادري - "ضحيّة محبّيه وخصومه على حدّ سواء" (ص 123). فيقوم بعرض آراء عدد من الأدباء بشعره، متوقّفًا عند تعلّقه الشديد بالوطن وحنينه الكبير إليه؛ كما يُتحفنا بمختارات من شعره، تنساب فيها الكلمات مفعمة بالصدق والموسيقى المأنوسة، التي تجد سريعًا طريقها إلى قلب قارئها؛ منها قوله وهو على متن الباخرة التي حملته إلى ديار الغربة:

"نصحتكِ يا نفسُ لا تطمعي / وقلتُ: حذار، فلم تسمعي

فإن كنتِ تستسهلين الوداع / كما تدّعين، فها ودّعي

خرجتُ أجُرُّكِ جرَّ الكسيح / تئنّين في صدري الموجَعِ

ولمّا غَدَوْنا بنصفِ الطريق / رجعتِ وليتك لم ترجعي". 

يروم النادري من عرضه لمختارات من شعر الشاعر القروي، الكشفَ عن "شخصيّة الشاعر العاشق للبنان، شخصيّة الإنسان الرقيق القلب، المتدفّق الإحساس" (ص 140)، كما يدعونا لنقرأه قراءة جديدة بعيدًا عن مواقف وأحكام معاصريه، "لندرك كم كان هذا الشاعر لبنانيًّا، وكم كان هذا الإنسان ودودًا ومحبًّا" (ص 141)، والنادري بذلك إنّما يعكس روحه المُحبّة والجميلة التي ترى الخير الذي في الناس، وتسعى لإيفائهم ما يستحقّون من اهتمام وعناية.

المقالة الثالثة هي في شعر الدكتور حسن محمد نور الدين، زميلِه وصديقِه، هذه المقالة التي تعكس قراءة النادري العميقة وإحساسه المرهف بالشعر، وبما يفيض من قلوب الشعراء، كأنّهم لسان حاله هو، ما يكشف ذائقته الرفيعة للشعر. وقد قسم فيها علاقات الشاعر إلى تسع دوائر، يتناول فيها تباعًا: أفراد أسرته، المعلّم، أصدقاءه وزملاءه، ثم علاقته بالشعراء، والوطن، والدين، والزمن، والمكان حيث يولي اهتمامًا كبيرًا لقريته الجنوبيّة كفررمان وجارتها حبّوش ومحيطهما؛ ليختمها مخصّصًا الحلقة التاسعة لعلاقته بالمرأة، حيث نقع على أشعار غزليّة طريفة كقوله في الصفحة160:

"غزاني الشيب والكِبَرُ اعتراني / وبعضٌ من هوى ليلى جفاني

كأنّ العمر ماضٍ ويك عمري / تناثرَ في الدساكر والقراني"

أو قوله في الصفحة 163:

"أهواكَ قالت، كم عشقتكَ إنّني / أشتاقُ أرتشف من لماك رُضابا

وأتوقُ أحظى أو أفوزُ بهجعةٍ / لتميط عني برقعًا ونقابا

ويلفّ جسمينا خباءٌ واحدٌ / من دفء حبكته نخيط ثيابا

وأغوص في بحر الغرام لعلّني/ ألقى بذاك البحر لي مرآبا"

ويَختم الكتابَ في القسم الثالث بمقالة وحيدة في علم الكلام، يعرض فيها "مسألة اللطف الإلهي بين معتزلة بغداد ومعتزلة البصرة"، وبالرغم من إعلانه في بداية المقال: "أن هذا اللطف ليس له من نتائج في عالم التطبيق لا عند بشر (بشر بن المعتمر رئيس معتزلة بغداد) ولا عند مخالفيه [البصريين]" (ص 174) ، إلّا أنّه يجد من المفيد إلقاء نظرة على حجج كلٍّ من الفريقين.

من يعرف النادري عن قرب، كما عرفتُهُ أستاذًا ثم مشرفًا على رسالتي لنيل الماجستير في اللغة العربيّة وآدابها، لا بدّ أن يلاحظ الواقعيّة والجدّيّة والرصانة في شخصيّته، تسير جنبًا الى جنب مع حسّه الشاعريّ المرهف، ما يمنحه هالة المعلّم الوقور والقريب الى القلب في آن. وهو ما ينعكس بقوّة في مقالاته، حيث تجد نفسك منجذبًا وأنت تستمع إلى حديثه، انجذاب التلميذ الى معلّمه وهو يشرح الدرس، فتتولّد لديك تساؤلات تتشوّق لمعرفة الأجوبة عنها، كمسافر نهمٍ للاستطلاع في رحلة غنيّة بالمشاهدات الممتعة.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم