السبت - 20 نيسان 2024

إعلان

الثورات التقنية... لا مساواة ولا حرية

منى فياض
الثورات التقنية... لا مساواة ولا حرية
الثورات التقنية... لا مساواة ولا حرية
A+ A-

إنه عصر حضاري جديد بكل معنى الكلمة. كل يوم نجد المزيد من الكتب والمجلات التي تعالج الثورة التقنية سواء أسميناها الثورة الرقمية أو ثورة المعلوماتية أو الذكاء الاصطناعي. يكتب سيرج سور، في عدد آب من "العلاقات الدولية"، أن الحضارة كاشتعال الحريق، الذي يدمر ويلتهم كل ما بطريقه، لكنه بالمقابل يولد الطاقة والحرارة والضوء.

يتحدث الجميع عن تأثيرات الثورة الرقمية الحاصلة التي غيّرت أنماط حياتنا. ومن المنتظر بحسب الأخصائيين أنها ستمهد لانقلابات تخلق نموذجا حضاريا جديدابكل معنى الكلمة، على غرار ما حصل عند اختراع المطبعة وبودرة المدفع والآلة البخارية ومن ثم الكهرباء.

إن أحد مميزات الحضارة الغربية، التي بدأت في المتوسط ثم انتقلت إلى أوروبا وبعدها إلى الأطلسي، أنها حصّلت إشعاعها العالمي بفضل ثورات تقنية متتابعة. والآن حان دور التقنية الرقمية التي أحدثت، حتى الآن، عددا من التحولات الجذرية في العلاقات بين الأفراد والمجموعات، محلية وعالمية؛ في البيئة كما في أنماط الإنتاج.

لكنها لم تجد بعد معناها ولا التوازن الاجتماعي والبيئي والاقتصادي والسياسي الذي يمكن أن ننتظره منها. إنها تغير الحياة لكن السؤال الذي يبقى غامضا: نحو أي أفق؟ هل سيتغير الإنسان نفسه؟ هل سيصبح إنسانا مزيدا (augmente) بفضل الذكاء الاصطناعي؟ هل سيحل الذكاء الاصطناعي محل الإنسان؟ أصبحت الثورة الرقمية مصدر شعور بالقلق؛ والقلق يولد لكي نتخطاه.

غزت سكك الحديد والسيارات والراديو والسينما والتلفزيون القارات وازدهرت في جميع الأنظمة السياسية بمعزل عن محتواها الفردي أو الجماعي، الحميم أو العام، الداخلي أو الخارجي. فخلقت أسس تبادل اجتماعي عالمي بمعزل عن التناقضات السياسية والثقافية أو اللامساواة الاقتصادية والاجتماعية. بدورها، الثورة التقنية ومن ثم الرقمية تسرّع دينامية التغيير بشكل غير مسبوق. انتشر الكمبيوتر الشخصي والتلفون المحمول عالميا أسرع بكثير مما فعلته سكك الحديد أو الآلة الطابعة أو الطرقات السريعة أو أي اختراع سابق.

بالطبع لم يكن ممكنا أن تنمو العولمة بالسرعة التي حصلت فيها، في نهاية القرن العشرين وبداية الحادي والعشرين، دون المعلوماتية وتسهيلات التبادل من كل نوع بين البشر والمجموعات والشركات، وخصوصا التبادل المالي المباشر. هذا الرأسمال العالمي العابر لحدود الدول والقارات أوجد الاقتصاد المدني الجديد وعلاقاته السلمية.

لكن هناك الأبحاث العامة والعسكرية أيضا؛ فمعظم الاختراقات التقنية لها استخدامات مزدوجة، سلمية وعسكرية. ويحتدم التنافس على هذا المستوى بين القوى العظمى، في استعادة واستمرار لأيام الحرب الباردة.

تجتاح التقنيات الرقمية حياتنا في كل ميدان من ميادين الحياة، من الحياة الاجتماعية إلى العلاقات العامة إلى التنافس السياسي.. جميعها مطبوعة بها. يمكن للمرء أمام حاسوبه الاستمتاع بوحدته النرجسية، لكنه يظل متصلا بالعالم ككل في الوقت ذاته.

يمكنه التعاطي المباشر مع مجموعات مختارة ويرسل رسائل ويشتري ويستعلم ويناضل؛ كما يمكنه أيضا أن يسطو على المعلومات بشكل غير شرعي وأن يسرق وأن يشيع معلومات كاذبة وأن يهدم وحتى أن يمارس الإرهاب. تقوم الدول بالأمر نفسه، إما لحماية نفسها أو لإظهار مزاياها عبر البروباغندا أو للتجسس أو للهجوم على منافسيها الذين تصنفهم خطرين.

تناقضات

هل ستكون هذه التقنيات الجديدة هي الأداة الفعالة لتحقيق المساواة التي كانت أحد مداميك الثورتين الأميركية والفرنسية، وصارت حقا أساسيا من حقوق الإنسان؟ أو هل ستساعد على التحرر من الأعمال الشاقة؟ أو هل ستسمح بالمساواة في الحظوظ بين الأفراد وتجعل العالم شفافا ومفتوحا على لوحة المفاتيح أمامهم؟ وهل ستسمح للفرد بالنمو والتعاطي مع عالم مسالم تحكمه تجارة ناعمة؟ لكن كل ذلك يصطدم بالواقع الذي لا يبعث على الحماس، لأن عدة عراقيل تقف أمام هذا الفرد: الصدمة الثقافية ومقاومة العالم القديم ونماذجه، إضافة إلى أن هذه التقنيات كغيرها، تحمل في طياتها بذور تناقضاتها: فهي ليست سوى أداة محايدة وقابلة لشتى الاستخدامات.

مساواة/ لا مساواة

إذا كانت التقنيات الجديدة تحمل لمستخدميها وعودا بالتبادل من دون قيود وبالتنافس الحر والمفتوح، إلا أنه ينقصها الكثير كي تصبح المساواة واقعية. فالمميزات التي يتمتع بها مخترعو هذه التقنيات المبتكرة، لأنهم مخترعوها، تحرم المستخدمين من المساواة ومن النمو المتكافئ بشكل مطرد. كما تحرم المنافسين أيضا الذين سرعان ما قد يجدون أنفسهم أمام احتكار يصعب تخطيه.

الجميع يعلم تفوق GAFA – المكونة من غوغل وآبل وفيسبوك وأمازون، ويضاف إليهم مايكروسوفت أحيانا. لقد أصبحت هذه المجموعة كيانا اقتصاديا يتحدى الدول، ويوجد قوانينه الخاصة ويفرضها على جميع زبائنه. بالإضافة إلى أنه، وفي جميع أشكاله، يدعم التفوق الأميركي. وهو الأمر الذي يعمق الهرمية بين الدول ويؤكد على النفوذ الأميركي ويجعل من نموذج الولايات المتحدة في القوة الناعمة عاملا مقررا. فحتى من يعترض عليه، كالصين، يجد نفسه يستعير أسلحتها. فالصين ما زالت اقتصاد تقليد وليس اقتصاد ابتكار.

الحرية/ الرقابة/ التشريط

أما الفرد الذي يشعر بمزيد من الحرية الظاهرية. فهو يقرر أمام حاسوبه كيف يمضي أوقات فراغه وأسفاره ومشترياته عن بعد ويمكنه أن يتصل بأي كان أو يمنع الاتصال به. الهاتف المحمول يفتح العالم أمامه في كل لحظة، وGPS أيضا يسمح له بمعرفة موقعه.

يظن أنه أصبح حرا كالهواء. لكن أليس كل هذا وهما وشبح حرية؟ أليس الفرد مراقبا في الوقت ذاته من الأدوات التي سمحت بحريته؟ فكل ما يقوم به عبر هذه التقنيات الموصولة يخضع لمراقبة النظرات المهتمة بنشاطاته، وبالتالي فهو ليس حرا. بل على العكس، تُستخدم جميع المعطيات التي تجمع عنه، وبمعزل عن إرادته، لغايات تجارية، سياسية وبوليسية. حتى حياته الحميمة تصبح وهمية. يحدد له فيسبوك تقريبا دائرة أصدقائه كما يرتئي، ويحدد غوغل وأمازون أذواقه وتفضيلاته. فتجتاحه العروضات الفضولية التي تحشر نفسها والتي لا يرغب فيها؛ كما تثقل عليه خيارات انتخابية ودعايات موجهة. يتم الوصول إلى اتصالاته وتحديد المواقع التي يستشيرها وسيعرفون حتى ماضيه.

الفرد ملاحق، وإذا وعي لذلك فقد يصبح الإغراء قويا لديه كي يستنتج أن كل هذه التقنيات كان الهدف منها مؤامرة كبرى من جهات خفية! كما يرد في أفلام السينما أو في بعض الأعمال الأدبية.

فهل جعلت منه هذه التقنيات إنسانا مزيدا (augmente) أم خاضعا؟

-هذا المقال نشر أيضاً في "الحرة".

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم