الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

كيف أصبح الموظف الماهر عاجزاً

حسان شعبان
كيف أصبح الموظف الماهر عاجزاً
كيف أصبح الموظف الماهر عاجزاً
A+ A-

يربط المروض الدعفل بحبلٍ رفيع، يحاول الفيل الصغير الهرب بكل ما أوتي من قوة إلا أن عضلاته الصغيرة لم تتكون بعد فيفشل، يستمر بالمحاولة حتى يعجز ويستسلم، فيتقبل الأمر ويهدأ. ينمو الفيل وتشتد عضلاته ويصبح قادراً على تمزيق الحبل بسهولةٍ تامة لكنه لا يقدم البتة على ذلك فقد تربى على مبدأ الرضوخ لطول الحبل واقتنع بذلك دون أن يدرك حقيقة قوته لأن تجربته مع الحبل منذ الصغر قد عدّلت منظومته المعرفية وتحكمت بسلوكياته ليتعايش مع عجزه الوهمي.

في سيتينيات القرن الماضي، قام عالم النفس الأميركي مارتن سليجمان بتجربة على الكلاب لدراسة أسباب الاكتئاب واليأس، أطلق على هذه التجربة مصطلح العجز المكتسب. أحضر سليجمان صندوقاً وقسّمه بفاصل حديدي إلى جزئين. وضع الكلاب في الجزء الأول الذي وصله بتيار كهربائي، ثارت الكلاب حينما مستها الكهرباء وحاولت الهرب لكنها عجزت بسبب الفاصل، فطوّت اجسادها وتقوقعت في زوايا الصندوق مستسلمةً للألم. بعد عدة أيام، أزال الفاصل وأعاد صعق الجزء الأول بالكهرباء لكن الكلاب انزوت بدلاً من القفز والانتقال إلى الجزء الآمن متحملةً الوجع لأنها اقتنعت بناءً لما اختبرته سابقاً بأن كل محاولاتها للنجاة لن تجدي نفعاً وماعليها سوى تقبل واقعها الحالي. لم يكتفِ سليجمان عند هذا الحد فقام بتطبيق التجربة ذاتها على البشر بشكل مختلف وبأدوات مغايرة فأتت النتيجة مماثلة ليتبين بأن تعرض الانسان لمجموعة من التجارب الفاشلة بشكل متكرر يقتل الحافز لتغيير الواقع المؤذي فيتقبله ويرضخ له ولا يسعى لتغييره مستقبلاً حتى لو تبدلت المعطيات وأضحت الفرص سانحة للتغيير والنجاح.

تكثر الأمثلة عن العجز المكتسب في المجتمع الوظيفي، فمن منا لم يسمع عن موظفٍ حرِص على إتمام عمله بجودة عالية بيد ان مديره كالّ له الانتقاد تلو الانتقاد حتى فقد نشاطه وحماسه واقتنع بأن كفاءته دون المستوى، أو موظفٍ قدّم الاقتراحات لمشاريع مبتكرة لكن مديره تعمد تجاهلها ففترت همته وأضحى متقاعساً متكاسلاً وغيرها العديد من الحالات التي لا تحصى.

تتجلى هذه الظاهرة بوجود مدراء مرضى نفسيين كالمتسلطين أو المشككين أو النرجسيين أو المتنمرين الذين ينبذون افكار موظفيهم الجديدة خلال عرض الحلول دون تقييمها بشكل مهني مخافة الخروج من منطقة راحتهم (Comfort Zone) حيث يجيدون تطبيق الاليات التي تعلموها واتقنوها في السابق. فيمتنع الموظف عن القيام بأعمال جديدة أو تقديم الاقتراحات خوفًا من الفشل أو الرفض، وتدريجياً يدخل اليأس والإحباط نفوس العاملين وتتغلغل الطاقة السلبية في المؤسسة لتصبح سمتها العامة وهذا ما يؤكده الباحثان فريز وميلر في كتابهما المؤسسات العصابية بأن سلوكيات المدير المرضية قد تنتقل إلى موظفي قسمه فتتحول إلى ثقافة مؤسساتية تنتج اداء وقرارات مضطربة وغريبة لتصبح المؤسسة كلها مريضة نفسياً مما يؤدي إلى هلاكها في المستقبل.

قام احد علماء النفس التربوي بمحاكاة تجربة سليجمان على الطلاب فأحضر مجموعة من الطلاب الذين يملكون نفس المستوى العلمي ولديهم مستوى ذكاء متقدم وقسمهم إلى ثلاثة مجموعات طالباً منهم إجراء امتحان صغير فوضع لهم سبع اسئلة (3 سهلة ، 3 صعبة و1 مستحيل). وزّع على المجموعة الأولى الإختبار وفق ترتيب يبدأ من الاسئلة السهلة إلى المستحيلة والثانية من الصعبة الى السهلة ثم المستحيلة أما الأخيرة فبدأ اختبارهم بالسؤال المستحيل ثم الصعب ثم السهل وكانت النتيجة بأن المجموعة الأولى نجحت بنسبة 100% والثانية بنسبة 60% أما الاخيرة فنسبة ضئيلة منها نجحت. الاختبار ذاته، المستوى عينه ولكن النتائج اختلفت فقط لأن ترتيب الاسئلة كان مغايراً بمعزلٍ عن المستوى العلمي والكفاءة. فمن استهل مسابقته بحل السؤال المستحيل شعر بالعجز وانتابه احساس بأن الاختبار صعب ويفوق قدرته العقلية فاستسلم وتعذر عليه استكماله حتى رسب بينما من بدأ بالسؤال السهل وانتقل تدريجيا نحو الاصعب تجاوز الاختبار بسلاسة وسهولة.

هذاما يشير إلى أن أسلوب القيادة الذي يعتمد حصراًعلى مسك العصا من الطرف ويرسي مبدأ العقاب والترهيب فقط سيكون أقل كفاءة من الأسلوب الترغيبي السلس، ان الموظف الذي يتم تحفيزه بعيد انجازه لمهامه يصبح أكثر قدرة على تطوير أداءه على عكس الموظف الذي يُطلّب منه القيام بمهام معقدة أولاً فيتلقى التوبيخ وتتوالى عليه الانتقادات حتى تتهشم ثقته بادائه ويقتنع بأنه محدود الكفايات غير قادر على إنجاز الاعمال بالشكل المطلوب. ووفقاً لبحث أجرته مجلة الادارة الدولية في العام 2002 يؤكد ان شعورالموظف المتزايد بتدني كفاءته يؤدي إلى ارتفاع احتمالات التوتر والقلق المزمن عنده مما يجعل بيئة العمل سلبية تعج بالمتذمرين والمحبطين.

لم تنتهِ تجربة سليجمان عند هذا الحد بل حاول اكتشاف سبل معالجة ضحايا العجز المكتسب. فأوقف الصعق الكهربائي للكلاب إلا أنها كانت كلما دخلت الصندوق ثنت أجسادها وتوجهت مباشرةً نحو الزاوية لأن تجاربها السابقة قد شوهت أجهزة الإدراك عندها بشكلٍ حال دون تمييزها بأن الكهرباء قد توقفت وما ينتج عنها من ألم قد انتفى وان العائق قد تمت ازالته وأصبح الخروج من الصندوق ممكناً. عمد سليجمان حينها إلى اجبارها على تحريك أرجلها خطوة بخطوة لجرها إلى المنطقة الآمنة التي تتيح لها الخروج ولكن عندما أعادها الى الصندوق مرة أخرى تقوقعت مجدداً وانزوت ، كرر الأمر أكثر من ثلاث مرات حتى بدأت الكلاب تقتنع أنه بامكانها تخطي الحاجز والخروج بأمان دون مساعدة.

ان تخطي العجز المكتسب أمر ممكن ولكنه يحتاج إلى اعادة ثقة ضحاياه بذاتهم. وهذه المعالجة تحتاج إلى نمط إداري مختلف ووعي قيادي حكيم، فالموظف الذي يعاني من هذه الأزمة المرضية يحتاج إلى اهتمام اضافي ليتمكن من القيام بعمله بشكله الطبيعي وإلى فهم دقيق للمعايير المطلوبة في العمل عبر تحديد الاهداف المتوقعة منه شريطة أن تكون أهداف محددة، قابلة للتحقيق وممكن قياسها. عندها يأتي دور التحفيز ليستعيد الموظف ثقته بنفسه ويستعيد جرأته المهنية ليمتلك روح الاندفاع والاقدام والابداع وهذا ما يفترض أن ينتهجه القادة في مؤسساتهم.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم