الثلاثاء - 16 نيسان 2024

إعلان

طفولة شربل داغر في الوجود والقصيدة: "يا حياة، أتوق إليكِ فتجيبني: أتوق إليكَ"

المصدر: "النهار"
مارلين سعاده
طفولة شربل داغر في الوجود والقصيدة: "يا حياة، أتوق إليكِ فتجيبني: أتوق إليكَ"
طفولة شربل داغر في الوجود والقصيدة: "يا حياة، أتوق إليكِ فتجيبني: أتوق إليكَ"
A+ A-

في التاسع من كانون الأول 2018 قصدت وصديقتيّ معرضَ بيروت العربي الدولي للكتاب 62، رغبة في رؤيته... ما إن وصلنا قربه، حتى اختطفَنا من ممرّ المعرض الغاصّ بالزوّار، الى عالمه الخاصّ. كان عددٌ من الوافدين قد سبقنا الى المقاعد المخصّصة لقاصديه، وجلس يستمع إليه يقرأ من كتابه. أسرعنا بالانضمام إليهم بشغف وصمت؛ فقراءته تُخرجك من محيط المعرض الى جِواءِ فكره.

على غلاف الإصدار الجديد لشربل داغر، المشطور الى قسمين -يتصدّر اللّونُ الأسود القسمَ الأعلى منه-، تُطالعُك كلمةُ "شعر"، تحلّق فوق كفّين مبسوطتين، تَظهر كلُّ دقائق بصماتهما. فتخال أنّك، متى ولجت الكتاب، ستقع على أبيات شعريّة مصفوفة وفق هندسة فراهيديّة؛ أو، أقلّه، على ما يسمّى قصيدة النثر... (إلّا أنّك، بعد اجتياز العتبة، ستفاجأ بعدم الوقوع على هذه أو تلك!).

يهيمن الأحمر على القسم السفلي من الغلاف -المخصّص للعنوان- حيث تتقاطع الكلمات، بين الأسود والأبيض، لتضعك أمام عنوان مزدوج، ينادي فيه الحياة صارخًا: "أتوقُ إليكِ"، فيأتيه جوابها: "أتوق إليكَ"؛ ثم يُبرز اللّونُ الأبيض الناصع بعضَ الكلمات، كأنّها للحياة، تكلّمه بشكل مباشر، معترفة ببراءة طفوليّة، منزّهة عن كلّ خطيئة: "شربل داغر... أتوق إليكَ"! ليصبح هو وهي واحدًا.

أقلب الغلاف، فأقع على إهدائه الذي يعلن لي وجهة رحلته: "عن الطفولة في الوجود والقصيدة"؛ وتبدأ الرحلة، فيعلن: "ليست في يدي خريطة، ولم أضع رسمًا لخطواتي، فقط هذا النفَس". (ص 5) ودفء أنفاسه يغرينا بالمسير، فلا نلبث أن نرى طفولته تدرج على الصفحات أمام أعيننا، تلهو مع الكلمات بمَلَكة فطريّة؛ صفحات هي كناية عن ورقة، هي "وجوه لكتاب! ويمكنك أن تقول فيها إنّها كتاب لوجوه." (ص 6) وجوه يسعى إليها كمن يبحث عن أجوبة لكثير من الأسئلة التي تشغل فكره، تُرهق مشاعره، تَندسّ في وجوده، فتغريه للقائها وتلمُّس كُنه أسرارها: "- إنّه جداري... = لو نرتّب لقاء بيننا..." حتى "نتلاقى في عيني آخر قابع في عتمته". (ص 7-8)

بهذه الطريقة يُدخلنا داغر عالمَ التواصل المعاصر، محدّدًا موقعَ الكلمة فيه وواقعَها المذري، كأنّها معبودة الجماهير وعبدتهم في آن: "هناك مَنْ يظنُّ أنّ اللّغة تنتظره، بمجرّد أن يفتح بوّاباتها الكثيرة: سيّدة بيتٍ مطيعة، بعد أن رتَّبتْهُ لقدومه في أيّ لحظة." (ص 10) وهناك من يظنّ، وهناك من يظنّ...

وفي خضمّ هذا الواقع، يبقى هو ذاك الطفل الحُرّ، المتفائل بالحياة والواثق من جمالها؛ يراقبها من برجه العالي، ويفهمها على طريقته الطفوليّة: "دعْ لليأس مشجبًا، وللانتظار عربة مستطيلة، يجرُّها عصفور وفراشة..." (ص 11) عالمه الذي يُغرينا بصفائه وشاعريّته وتحرّره: "ما أحلى أن يُسابقَ الطفل مواعيدَه المُرجَأة، فيجد في شارع أكثر من حقل ومرج زهور، وأكبر من فسحة في كتاب صلاة، وأغنى ممّا تفتحه نافذة في سماء!" (ص 16).

ويكبر الطفل سريعًا، تنضج نظرته وكلماته وأشواقه: "ما أحلى أن تكون بيروت مشتهاة ومتمنِّعة..." (ص 16) يُضْحي صيّادًا، يشرِّع لنا أبوابَ رحلته، ويرينا كلَّ ما تراه عيناه. يخبرنا عن طرائده، تلك التي "تنزل في بركة عينَيْه نزولًا أشدَّ وأرقَّ من طيران عصفور فوق صفحة نهر غير نهر بيروت." (ص 17) هذا الصبيّ يعشق أزقّة بيروت، يحياها قصيدة، يمتصُّ منها رحيقَ الحياة، التي يناديها صائحًا: "يا حياة، أتوق إليكِ"، فتجيبه: "أتوق إليكَ"! (ص 18)

نعاينه وهو يؤدّي رقصته مع الورقة، حتى تتحوّل الى بساط ريح يحمله عاليًا، فيرى الدّنيا من فوق، وهو فاغرٌ فاه أمام هذا العالم المتمادي في العلو، يدور فيه "في حومة شغفٍ لم يذقْ طعمًا مماثلًا لها قبل ارتجافات الغرام الأوّل." (ص 21)

نجد أنفسنا معه وسط عالم طفوليّ يغوص فيه، بعدما مضى تاركًا خلفه دهشة ذاك الحضور؛ ما يولّد ازدواجيّة في الرؤية لديه، بين الطفولة والكِبَر، "بين طفل وشاعر" (ص 24). وتنساب الكلمات، تَدرجُ سريعة من فيهِ، كأنّها تغريدة طير حرّ من كلّ قيد، تحلّقُ حينًا، وتَتمشّى حينًا آخر، ولم لا؟! "أتمشّى فقط، من دون أن تنتظرني قافية." (ص 42)

وتتتالى قفزات الطائر المغرّد، المتنقّل بين الأغصان، حتّى يحطَّ "في المكان الغلط" (ص 44). يتحوّل سريعًا الى رجل، تصيح رغبته معلنة أنّها "تتقمّص في قبلة لامتناهية" تتكرّر "في حياة أخرى... للحبيبة عينها". (ص 45)

ويستمرّ في رسم دهشته أمام الوقت: "دعني أَذُقْكَ، أيّها الوقت" (ص 48)، وأمام اللّغة : "لو أنّ الماشي يتمهّل... ليرى ما في العبارة من نظرات... وما تغصّ به آهات حَنْجَرة حين تتساقط عنبًا فوقَ وليمة"! (ص 54) وأمام القصيدة: "من يُروِّج للُّغة أفضل من القصيدة؟ من يُحييها، إذ يَدرج معها أينما كان: في وصفها، وحوارها، وتتابُعِها في انحدار عبارة، وشَغَفها بما تدعو غيرها معها للاحتفاء به؟" (ص 56)

لقد تبدّل شكل القصيدة عنده، فإذا به يطرّز نصوصه ببريق أحلام الشاعر الذي فيه، بصوَرِه وعواطفه وهيامه باللّغة، بترف انتقائه للعبارات المنسابة برشاقة وتمرّس، فتسحرك وأنت تتتبّع خطواته، وهو يدخلك الى عالمه، مع ما فيه من طفوليّة! "تجعلني القصيدة أسعى في انزلاقة معتمة، حتى إنّ خطواتي لا تماشي قَدَمَي. هكذا تستعيدني... وتمسك بي بلطيف أصابعها الطويلة: لا تقنطْ، أنتَ في عهدتي... أنتَ بتصرّفي؟" (ص 62)

نذر نثره للشعر، فتغلغلت روح الشعر فيه من دون أن يلبس نثرُه هيكل القصيدة! وسلّم نفسه للقصيدة، هو القائل: "القصيدة تَنصب لي قبل القارئ فخاخًا... قد تكون مرعبة لغيري، لا لي، إذ هي مَنْ يدافع عنّي في غيابي." (ص 62)

من يقرأ شربل داغر في هذا الكتاب، يلحظ مدى تأثير واقعه الجديد -بعد دخوله عالم التواصل- على كتاباته. فهو، مع أنّه يندمج معه، يبقى غريبًا عنه، أو لنقل: متفرّدًا، محافظًا على سمة خاصّة به: "يكفي أن تمدَّ يدكَ، أينما تشاء، لتعثرَ على أناس يتكالمون فيما بينهم... تلقاهم يَعْبرون أمامكَ من دون أن يُزعجوكَ." (ص 63)

ثمّ يقف وقفة الشاعر أمام كَمِّ التساؤلات التي تولّدها فيه الحياة، حول كثير من الأمور، نصّه الشعري واحد منها: "وليْدُكَ العاق: تتبنّاه، ولكنّه لا يلبث أن يمزّق وثيقة ميلاده، من دون رحمة." (ص 80) وينتهي الى خلاصة تحاكي مقولة رولان بارت حول موت المؤلّف: "أنا دوَّنتُ... غيري قد تلقّفَه [تلقّف كلماتي] بدوره مثل إشاعة طار صاحبها... فيما يظنّ كلُّ مَنْ نقلها أنّه صاحبها بدوره." (ص 82)

ويبقى السؤال: أتكون الكلمات، في ذاتها، هاجس شربل داغر الأكبر، لا هيكليّة النصّ الشعريّ؟ ونستنتج، من خلال ما تضمّنه كتابه هذا، أنّ القالب الذي تنزل فيه الكلمات أو يحتويها، غير مهم بالنسبة له؛ المهمّ هو ما ترومُه نفْسُ الشاعر، ويَخرج للعلن مطيَّبًا بنفَسِه؛ هذا النَّفَس الذي يُحيي فينا، كلّما لامَسَنا، الشعورَ بأنّنا نحن من بثّ هذا النبْضَ في الكلمات، لتصدحَ معلنةً ولادتَها الجديدة.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم