السبت - 20 نيسان 2024

إعلان

معمعة تلوث البردوني لوثت الجميع

زحلة-"النهار"
معمعة تلوث البردوني لوثت الجميع
معمعة تلوث البردوني لوثت الجميع
A+ A-

إسودت مياه نهر البردوني يوم الاربعاء الفائت، لتكشف هذه القضية، بمساحاتها الرمادية الكثيرة، ان التلوث هو بيئة قائمة بحد ذاتها في هذه البلاد.

عندما ورد خبر عاجل عن توقيف صاحب معمل ميموزا وسام تنوري من قبل النيابة العامة البيئية في البقاع على خلفية تلوث البردوني، شكلّ الامر صدمة كبيرة في زحلة وجوارها، فاقت الصدمة بإقفال المعمل بالشمع الاحمر في اليوم السابق من قبل النيابة العامة المالية بناء على إخبار من المصلحة الوطنية لنهر الليطاني. فمعمل ميموزا، بفعل نفوذ مالكيه نتيجة لشبكة علاقاتهم المتشعبة، منذ ايام النظام السوري للبنان وبعد جلائه، كان وظل عصيّاً على الملاحقة القانونية، وقلمّا افضت الشكاوى عن تلويثه البردوني الى اجراءات قانونية بحقه، في المقابل فان المعمل "صوفته حمراء"، فلازمته الشبهة في كل مرة يتلون البردوني، حتى بعد ان تزوّد بنظام معالجة لتكرير نفاياته السائلة.

من ناصر المعمل واقتنع برواية ان اصطباغ النهر بالاسود كان نتيجة لعمل تخريبي مدبرّ بقصد الاساءة للمعمل، وكذلك من لم يصدق رواية العمل التخريبي، من إعترض من هذه الفئة على إجراء أقفال المعمل بالشمع الاحمر لكونه "خراب بيوت" ل 700 عائلة تعتاش من عمل احد افرادها فيه، ومن رحبّ بالقرار على إعتبار ان الدولة شربت أخيرا "حليب سباع"، كلهم عبرّوا عن سؤ ظنونهم بتوقيف تنوري يوم جمعة، "حتى ينام لغاية الاثنين"، بسبب العطلة الرسمية يومي السبت والاحد. وبانه كان بالامكان استدعائه الاثنين واتخاذ التدابير التي يراها القضاء مناسبا، فالرجل لن يهرب، هو صاحب مصالح كبيرة، رئيس بلدية، وشخصية وازنة في مجتمعه. سيما وان تنوري تعامل مع قرار اقفال معمله واستدعائه للقضاء، باسلوب low profile. وهو إن كان قد حرك شبكة علاقاته، الا انه لم يصعّد من لهجته، ولم يقاوم اي من الاجراءات، ولم يستخدم ورقة عماله، اكبر المتضررين من إقفال المعمل بلقمة عيشهم، وهم بمعظمهم ينتمون الى الطبقة العاملة الفقيرة. وكان محامي احد الصناعيين ذكّر بقول سائد: "اذا انقطعت فيك سبل العيش ما إلك الا ميموزا والجيش". واذا كان الانتقاد لتوقيت توقيف تنوري، مع ما ينطوي عليه من خطورة للنظرة الى القضاء، لكنه ظل أحاديث بالسوق. الضغط لكي لا يقضي تنوري عطلة الاسبوع في النظارة جاء من مكان آخر.

فسرعان ما إنتشرت رسالة صوتية على تطبيق واتساب تدعو "الدنيا كلها، رؤساء الاقسام والافواج وعمالهم" (في معمل ميموزا) التوجه الى قصر عدل زحلة، "ممنوع المغادرة قبل ان يغادر الريّس العدلية". وعليه بدأ تقاطر موظفو المعمل وعماله الى امام قصر العدل، قطعوا الطريق على مسلكيه وتجمعوا امام مدخل العدلية الذي حصّنه شريط بشري من عناصر قوى الامن الداخلي. ومع تقدم الوقت وتزايد الاعداد، كان العمال الخائفين على مصدر عيشهم والذين يكنون المحبة والتقدير لرب عملهم، يغالون في اظهار الولاء له، مزايدين على مسؤوليهم، سواء عندما يحاولون الدفع للوصول الى باب العدلية فيصدهم المسؤولون، او عندما اشعلوا النار في نفايات حاوية، على الطريق المقابلة لقصر العدل، وحاولوا منع الدفاع المدني من اخماد الحريق. لكن دائما كانوا ينصاعون في النهاية لتعليمات رؤوسائهم، الذين ما كفوا عن الترداد ان اي تصرف خارج الطريقة يؤذي الريّس ولا يساعده. رغم بقاء التحرك سلمياً، إلا أنه كان ضغطا على السياسيين والقضاء لانهاء ملف تنوري في اليوم نفسه. فهناك مدينة، كان يفترض ان تحتفل بافتتاح قرية ميلادية في وادي البردوني، قطع طريقها الرئيسي، وهناك مئات من الاشخاص الغاضبين متجمهرين امام قصر العدل.

تجاوب مع هذا الضغط واعطاه زخماً، النواب الثلاثة، ميشال ضاهر، أنور جمعه وجورج عقيص. ضاهر كان اول الواصلين الى العدلية، لم يشكلّ حضور ضاهر مفاجأة كبيرة للمعتصمين، بل كان اقرب الى خطوة طبيعية، لكونه زميل كار لتنوري، فهو ايضا صناعي وملاحق معمله من قبل المصلحة الوطنية لنهر الليطاني. المفاجأة كانت عندما وصل النائب انور جمعه، فنفح حضوره روحا بالمعتصمين، "جاء نائب حزب الله" مع كل ما تحمله هذه العبارة من مضامين. لتكتمل صورة الدعم مع حضور النائب عقيص، كان مشهدا سياسيا شبه تام. دخل النواب مباشرة الى قصر العدل، لدى مغادرتهم له كما لدى دخولهم اليه وطيلة مكوثهم فيه، لم يتعاط النواب مع المعتصمين، حضورهم كان رسالة كافية لاولئك.

من حيث يعلمون او لا يعلمون، اساء النواب الى القضاء، هم الذين اشادوا بحرفية تعاطيه مع الملف. إذ إعتبر مجرد حضورهم الى قصر العدل تدخلا في عمله، واشتعلت وسائل الاعلام بالحملات المنتقدة المستنكرة. حاول النائبان جمعه وعقيص دفع التهمة عنهم وعن القضاء، بتبرير حضورهم فزادا الطين بلة. ففي أول تصريح للنائب جمعه لموقع sada4press، نشر على صفحته الرسمية على فايسبوك قال:" القضاء تصرف بحرفية واستقلالية تامة واجرى بمقتضى صلاحياته استجواب صاحب معمل ميموزا، ولم نتدخل لدى القضاء اصلا، وكنا خلال التحقيق خارج القاعة واطمأنينا لمجريات امور التحقيق طبقا للقانون..." ومن ثم كشف عن اكثر مما يجب :"نحن شهدنا على حرفية القضاء، وايضا استمعنا من قاضية التحقيق ان الامور سائرة بشكل عادي جدا جدا".

اما النائب جورج عقيص فقد قال في بيان نشره ايضا على صفحته على فايسبوك، بان قرار قاض التحقيق كان قد صدر بترك تنوري لقاء كفالة مالية، "تركت المكان فورا بعد ان ادليت بتصريح إستغربت فيه توقيت الاستدعاء وحسب". وبالتالي فالنائب عقيص، الذي اراد ان ينصف قاضي التحقيق ونفسه، تبنى من حيث لا يدري وجهات النظر المشتبهة بتوقيت استدعاء تنوري وتوقيفه.

بالتزامن مع كل هذه التطورات، كان الشارع الذي نظر بعين من الريبة الى توقيت توقيف تنوري في بدء عطلة نهاية الاسبوع، يتلقى بذهول انباء إنعقاد جلسة تحقيق لاجل تنوري خارج الدوام الرسمي، وحضور ثلاثة نواب لمؤازرة قضيته، ومن ثم إحضار امين الصندوق ليلاً لايداع الكفالة المالية، ومواكبة مذكرة اخلاء سبيله الى منزل النائب العام في العاصمة لاجل توقيعها، فتحولت التعليقات الى أنه "لو كان رجل معتر كان سينام بالسجن". لم تطال الانتقادات، لدى الرأي العام العريض، لا القرار القضائي بتوقيف تنوري بحد ذاته، ولا القرار القضائي بتخلية سبيله، وبالتالي لم تكن الانتقادات موجهة الى حرفية القاضيين اللذين نظرا بالقضية، بل تركزت على التوقيت، لتشي باعتقاد لدى عامة الناس بان ثمة من يستطيع تحريك القضاء واستعجاله.

بينما كانت الحملات مستعرة، برزت تغريدة لوزير العدل سليم جريصاتي، يوم الاحد، وفيها: "من منطلق تحصين القضاء، ملف معمل "ميموزا" القضائي بكل مفاصله وتطوراته الى التفتيش القضائي، وتحريك الدعوى العامة رهن خلاصات التفتيش لجهة التدخلات والضغوط والحمايات بالتطييف". بدا ان القضاء بات موضع المساءلة. فعاد الشارع الى الانتقاد: هل كان القضاء ليتحرك ويجد تخريجة بعقد جلسة تحقيق في اليوم نفسه، واحضار موظف الصندوق وارسال المذكرة الى بيروت لتوقيعها، لولا غطاء سياسي كبير، وبعد مناقشات امنية وقضائية وسياسية للتعامل مع وضع في الشارع قد يتفجر؟ كيف يمكن تحميل وزر معالجة القضية لقضاة وحدهم، ولنواب وحدهم؟

لم يكن ينقص كل هذه المعمعة سوى، صورة تنوري محمولا على الاكتاف، خارج قصر العدل بعد تخليته. وحده البرد القارس، الذي نال من فرائص المراسلين الصحافيين ومن بطاريات كاميراتهم، وتأخر انتهاء اجراءات تخلية السبيل، ما منع ان تتصدر هذه الصورة الصحف ونشرات الاخبار، إذ غادر الصحافيون قبل خروج تنوري.

هذا في تطورات الملف قانونيا راهناً. اما في شق تلويث البردوني، فان الوقائع الثابتة لغاية الآن ان نتائج التحليل المخبري لعينات المياه التي أخذها مندوبو وزارتي البيئة والصناعة ومصلحة الليطاني لم تصدر بعد. والعينة التي اخذت من مخرج فلاتر تكرير المياه في المعمل لم تكن نظريا ملونة، فيما العينة التي اخذت من مخرج قناة تصريف مياه الامطار التي تعبر تحت المعمل، كانت سوداء. في مقابل اتهامه بتلويث البردوني فان تنوري كان قد تحدث عن عمل تخريبي متعمد، ولفت الى امكانية وجود مجرور مكسور تحت قناة تصريف مياه الامطار ما ادى الى تفاقم الموضوع. وفي الوقائع ايضاً ان ثمة من اقدم على رمي صباغا اسود في قناة تصريف مياه الامطار المكشوفة، في موقع فوق معمل ميموزا وبين المنازل، في خلال كشف مندوبي البيئة والصناعة والليطاني بصحبة تنوري وبحضور الصحافيين على القناة، ما ادى الى تحول المياه في اثناء تواجدهم من صافية الى سوداء. علما ان تدفق المياه السوداء في البردوني إستمرت لما يقارب 6 ساعات متواصلة، من طلوع الضو الى فترة بعد الظهر.

من جهة ثانية، ومقابل هذه الوقائع وربما إنطلاقاً منها، ثمة رواية يتم تمريرها للتداول، بان ثمة من فتح عن قصد مصرف الخزانات التي يجمع فيها المعمل على سطحه المياه الصادرة عنه ملوثة بالحبر، حيث تترك لتجف عبر التبخر فيتم استخراج البودرة منها. وان من يكون قد قام بذلك هو موظف محسوب على شريك سابق في المعمل. تقابلها رواية ان الخزان قد يكون فاض بسبب الامطار وتسربت منه المياه الملونة.

عن قصد بغرض اذية المعمل؟ إهمال ادى الى ان يفيض خزان الحبر؟ او استغلال للامطار ورمي مياه الخزان في المجرور العام على امل ان تخفف الامطار من كثافة اللون فتمر في النهر مرور الكرام؟ وهل تعني هذه الحالات الثلاث، على تناقض نياتها ووحدة نتائجها، ان شبكة الصرف الصحي لميموزا لا تزال مرتبطة بالشبكة العامة؟ في كل حال لقد جرى تجاوز هذه الاسئلة بعد اتخاذ التدابير بحق المعمل وصاحبه. وحتى الاجوبة لن تسمح من تبيان الخطوط البيضاء من تلك السوداء في هذه القضية، التي شابت معالجتها الكثير من المساحات الرمادية، والتلوث الاخطر هو ما يخفى عن النظر. تبقى في كل هذه المعمعة عبارة قالها النائب جورج عقيص في ختام تصريحه للصحافيين، لدى مغادرته قصر عدل زحلة: "دعونا نعطي القضاء فرصته في هذا البلد، فالقضاء هو خلاصنا الوحيد".


الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم