السبت - 20 نيسان 2024

إعلان

"غود مورنينغ" لبهيج حجيج: حياة متقاطعة (فيديو)

المصدر: "النهار"
"غود مورنينغ" لبهيج حجيج: حياة متقاطعة (فيديو)
"غود مورنينغ" لبهيج حجيج: حياة متقاطعة (فيديو)
A+ A-

متقاعدان في ثمانيناتهما (غبريال يمّين وعادل شاهين)، أحدهما طبيب والثاني جنرال، يلتقيان بانتظام في مقهى بيروتي لحلّ كلمات متقاطعة. هذه العادة اليومية المتكررة تساهم في تنشيط الذاكرة، أقلّه في صونها من خطر فقدانها التدريجي. يجوبان العالم والذكريات والماضي من خلال الكلمات، في انتظار موت آتٍ لا محالة.

للمقهى اطلالة بانورامية على تقاطع وبضعة أرصفة في حيّ بيروتي. هذه الاطلالة عبارة عن كادر داخل الكادر. تتيح للمخرج ان يقفز من حدود المكان الواحد وإن رمزياً، كما تتيح للرجلين التعليق على المارة. الشارع وحيويته باعتبارهما مسرحاً للحياة اللبنانية اليومية، حيث تحدث أشياء بسيطة تحمل دلالات: بناية تُهدَم، ماسح أحذية يهرب من الشرطي، فتاة رشيقة تعبر الشارع…

في الفيلم، شخصيات ثانوية كثيرة تدخل المقهى وتغادره، هكذا ببساطة. في مقدمة هذه الشخصيات الثانوية، شخصيتان: النادلة والصحافي (مايا داغر ورودريغ سليمان). علاقة اعجاب شبه صامتة تنشأ بينهما لا تؤدي إلى نتيجة لأسباب معينة. لظهورهما وظيفة واضحة، وربما أكثر ممّا ينبغي، ومحددة: خلق تفاعل بينهما وبين المتقاعدين. فالفيلم لا يمكن ان يكتفي بالرجلين العجوزين لأسباب بديهية.

"غود مورنينغ"، الفيلم الروائي الطويل الثالث للمخرج اللبناني بهيج حجيج، بعد "زنّار النار" و"شتّي يا دني". السيناريو للروائي اللبناني المعروف رشيد الضعيف (شارك حجيج في تأليفه) في ثاني تعاون بينهما بعد "زنّار النار". خلافاً للفيلم المذكور، هنا لم يقتبس رواية، بل عمل مع الضعيف على نصّ أصلي للشاشة.

لعل أهم ما في الفيلم هو النوع الذي ينتمي اليه: سينما لبنانية لا تلهث بالضرورة خلف الربح المادي، غير مدّعية، أُنجزت بأقل من ٢٠٠ ألف دولار. حجيج اختار معسكره: تلك المساحة "الوسطية" الواقعة بين الفيلم التجاري وفيلم النخبة الذي يطرح خطاباً متماسكاً.

مساهمة الضعيف في الفيلم لها بصمات واضحة، كونه مشبّعاًبحواراته وآرائه في شؤون آنية، كقضية الإرهاب ومسألة اللجوء،فالتاريخ الذي لا ينفك ان يتكرر. هذا كله سنتابعه على شاشة تلفزيون داخل المقهى أو بين لفيف من أوراق الصحف. يحمل النصّ ما يكفي من اشارات وتلميحات لتجربة معيشة كي نعتبره نابعاً من خبرة شخصية.

من خلال حبكة بسيطة ومتكررة تنطوي على القليل من التطور الدرامي، يستعرض "غود مورنينغ" الشيخوخة وأزمة العيش في زمن يشهد تحوّلات كبرى حد ان بعضهم يشعر بأنه غريب عنه، بل مجرد ضيف على مرحلة تجاوزته.

الفيلم متقطع، يشبه في صيغته النهائية الكلمات التي يحلّها الثنائي الظريف. لا يتأخر على شيء: لا على الأحداث ولا على محاولات الاستظراف ولا على معلومة يكشفها الصحافي الذي يستعرض ثقافته وذاكرته الحاضرة والخصبة. الكلمة المرميّة التي نعتقدها ستُحدث شرخاً في جدار أو تحرّك السكّين في جرح، لا تُحدث صدى. تنسحب من تلقاء نفسها ولا يبقى سوى الانتقال إلى اللقطة التالية. وهكذا دواليك طوال ساعة ونصف الساعة.

توزيع الفيلم على فصول عدّة يضع المخرج في تحدٍّ صعب: المحافظة على استمرارية المشاعر ووحدة الايقاع السردي، المسألتان اللتان لا ينجح فيهما دائماً. فثمة فيلم يموت كلّ بضع دقائق ليولد آخر من رحمه. وبين لحظتي الموت والولادة، هناك عملية نمو غير مكتملة. في هذا التلاشي التدريجي ثم العودة إلى الحياة، يأخد الفيلم شكل المدينة التي تنهار مبانيها لتعود وتتعمّر من جديد.

أراد حجيج فيلماً غير استغلالي لصورة بيروت و"نمطيتها". فلم ينتهز الفرصة لتشكيل صورة اكزوتيكية مبنية على شيء من بيروت عالق في الذاكرة. لذلك، اختار مقهى "حيادياً"، مع ناس يتشابهون نوعاً ما، وقد لا يعنيهم كلّ ما يحدث في العالم الا اذا هدد وجودهم. والعالم الحالي الغنيّ بالمستجدات، لا يتوانى عن اقتحام المساحات الشخصية وانتهاك الخصوصيات والتسلل إلى الداخل. وها ان الحياة بكلّ تفاصيلها المفجعة والمؤلمة تصبح فجأة داخل جدران المقهى الهادئ مع تصاعد وتيرة العنف. هذا يمنح النصّ السينمائي بُعداً كونياً قد يجد فيه أيٌّ كان شيئاً من ذاته ومخاوفه. هذا البُعد التجريدي الذي يتنصّل من المكان،هو لمصلحة الفيلم وضده في آن واحد، اذا أخذنا في الاعتبار مدى اصرار الغرب على اعطاء أي منتوج فنّي هوية وانتماء واضحين. فهم يريدون فيلماً يحمل ندوب المعاناة على ان تكون ظاهرة للعيان. "غود مورنينغ" ممانع في هذا المجال. يكتفي بوصف "نهاية الخدمة" من عيني مَن صارت أمجاده خلفه… هؤلاء الذين لا يجري الكثير في حياتهم، فباتوا يستقبلون الأحداث بدلاً من صناعتها.

اللقاء بين عادل شاهين (الذي توفي ما ان انتهى من تصوير الفيلم) وغبريال يمّين يُحدث الشرارة المطلوبة، حدّ اننا نغفر للنصّ اظهار جنرال لبناني في الدرك بهذا الشكل الإيجابي. وفي الحقيقة، لا فيلم من دونهما. فبقدر ما يستند "غود مورنينغ" إلى الكتابة، يعتمد على التمثيل. لعبة بينغ بونغ تتجسّد من خلال الأداء الصادق والعميق، وتنقذ الفيلم من فخّ المسرحة.

بالرغم من هنّاته، قدّم حجيج عملاً يشهد على زمنه برقّة وبلا مراوغة.

في الآتي، مقابلة مصوّرة مع بهيج حجيج سُجِّلت في الدورة ٤٠ من مهرجان القاهرة السينمائي حيث عُرض "غود مورنينغ".

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم