الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

لماذا لم تستطع كلمة ماكرون تهدئة "السترات الصفر"؟

المصدر: "النهار"
جورج عيسى
A+ A-

استنزاف؟

أشارت شبكة "فرانس 24" إلى وجود امتعاض لدى محتجّين كثر بسبب حرص ماكرون عادة على إلقاء خطب مطوّلة عن محاسن العولمة لكنّه بالمقابل لم يخصّص لأعمق أزمة تشهدها رئاسته سوى 13 دقيقة. ونقلت عن استطلاع رأي لشركة "أوبينيون واي" أنّ 54% من المستطلعين يريدون إنهاء الاحتجاجات بينما أراد 54% إكمال الحراك وفقاً لاستطلاع رأي آخر لشركة "أودوكسا". إذاً، تمكّن ماكرون من احتواء جزء محدود من الغضب الفرنسيّ بشكل عام، لكنّه لم يتمكّن من إنهائه إذ من المرتقب أن يكون السبت المقبل هو السبت الخامس على التوالي الذي سيشهد تحرّكاً ل "السترات الصفر". إذاً، لماذا لم ينتهِ هذا الحراك بمجرّد إزالة السبب المباشر الذي أطلقه؟

تراوحت المقاربات التي حاولت درس مدى ديمومة ظاهرة "السترات الصفر" بين تلك التي توقعت تلاشيها بعد فترة قصيرة وتلك التي ارتقبت استمرارها لفترة أطوال. بعد أكثر من أسبوعين على انطلاقها، قال رئيس وكالة الأبحاث "بولينغفوكس" جيروم سان-ماري في حديث إلى وكالة الصحافة الفرنسيّة إنّه لو اكتفى التحرّك بحشد 50 ألف متظاهر في السبت الثالث فسيكون الأمر "منتهياً". أتى ذلك بعدما شارك في مظاهرة السبت الأوّل 290 ألف محتجّ تقريباً وفي الثاني حوالي 106 آلاف. صحيح أنّ أعداد المتظاهرين لم تعد إلى تلك التي كانت عليه عند انطلاق الحراك، لكنّها لا تزال في كلّ سبت تتخطّى المئة ألف. حينها، سان-ماري توقّعه على قدرة الاستنزاف في تبديد هذا الحراك. وهذا يعني أنّ هذا التحدّي يزال يواجه "السترات الصفر" طالما أنّ الاستنزاف قد يتحقّق في المدى المتوسّط، وخصوصاً مع استطلاعات الرأي الذي أظهرت تراجعاً نسبيّاً في تأييد الاحتجاجات وقطع الطرقات. لكن قد يكون في كلمة الرئيس الفرنسيّ ما قد يعطي مزيداً من الزخم للمحتجّين، وبالتحديد حين يتمّ إقرانها بتحليلات أخرى للوضع الاقتصاديّ الفرنسيّ.


"شعبوي النخب"

لم يرد ماكرون إعادة فرض الضريبة على الثروة على اعتبار أنّ خطوة كهذه ستؤذي الاستثمار. بالتالي، لم يمحُ هذا القرار الانطباع السائد حوله بكونه "رئيس الأغنياء" أو حتى "شعبويّ النخب" بحسب تعبير مايكل دوغرتي في مجلّة "ناشونال ريفيو" الأميركيّة. لكنّ هذه المسألة لا تنحصر بشخص ماكرون بل تعبّر عن نظرة الفئات الدنيا من الطبقة الوسطى إلى النخب الثريّة التي استفادت من العولمة على حسابها. وبالتالي، تصبح رئاسة ماكرون نفسها جزءاً من نمط حكم شبه راسخ في الإليزيه يمتدّ على فترة طويلة من الزمن. عالم الجغرافيا كريستوف غيلوي لخّص في صحيفة "ذا غارديان" ما حدث منذ الثمانينات كاتباً أنّ من تداعيات النموذج الاقتصاديّ المعولم إفادته أثرياء المدن الكبرى بينما فقدت المناطق الريفية والبلدات الصغيرة والمتوسطة صناعاتها وديناميّاتها. وشار في الوقت عينه إلى أنّ ارتفاع أسعار الوقود أطلق حركة "السترات الصفر"، ومع ذلك فهو "ليس جذرها" الأساسيّ.

من هنا، يمكن تكوين فكرة عن سبب عدم تراجع "السترات الصفر" عن احتجاجاتها لغاية اللحظة. ليس الأمر مرتبطاً، ولم يكن، بفرض ضريبة بيئيّة على المحروقات فقط. طبعاً، لا يمكن لهذا السبب المباشر في إطلاق المظاهرات أن يفوت المراقبين، بناء على الانفصال بين عالمي المدن الكبرى من جهة والأرياف والبلدات والضواحي من جهة أخرى. فالأكثر تأثّراً بهذه الضريبة هم أولئك الذين يعيشون في الأرياف وأصحاب الصناعات الصغيرة التي تعتمد على الوقود من دون أن يكون إنتاجها قادراً على تلبية الحدّ الأدنى من متطلّبات عيش أصحابها، فكيف مع زيادة ضريبيّة أخرى. لكنّ الأسباب غير المباشرة لنشوء "السترات الصفر"، وعلى رأسها الخلل الاجتماعيّ الذي استمرّ طوال عقود، يمكن أن تواصل ضخّ هذا الحراك بالمزيد من الحيويّة لاحقاً. ما نجح الأخير في تحقيقه خلال شهر تقريباً هو جذب انتباه "النخب" وتذكيرها بوجود طبقة وسطى تتآكل مع الوقت بفعل غياب العدالة الاجتماعيّة وارتفاع البطالة واعتماد سياسات إقصائيّة، بغضّ النظر عمّا إذا كان الأمر متعمّداً أم عرضيّاً.

بدأ العدّ التنازليّ؟

لكنّ "السترات الصفر" بما تشكّل من تعبير عن مشاكل الطبقة الوسطى لن تكتفي فقط بجذب الانتباه. بالمقابل، ليس حتميّاً أن يتمكّن هذا الحراك من الوصول إلى البرلمان كما فعل "البوجاديّون" قبله بحوالي ستّة عقود حين أوصلوا أكثر من 50 نائباً إلى البرلمان الفرنسيّ. فالحراك الحاليّ لا يزال يفتقد للحدّ الأدنى من التنظيم، أقلّه لغاية اليوم. لكنّ التربة التي نما فيها لا تزال خصبة. ربّما يعطي السبت المقبل تصوّراً عن ردّ فعل الشارع الفرنسيّ الأوّلي على كلمة ماكرون، علماً أنّ المظاهرات الطلّابيّة يوم أمس وجّهت رسالة لافتة في هذا المجال. بعده، ستكون البلاد قد دخلت في مرحلة الأعياد مع توقّع مبدئيّ بأن تنخفض حدّة الاحتجاجات في الأسبوعين التاليين. أمّا في حال استمرار الهدوء المفترض لفترة أطول من ذلك، فهذا قد يعني فعلاً أنّ الحراك قد وقع ضحيّة الاستنزاف وعدم استغلال الفرصة لتنظيم صفوفه وتحديد أهدافه المشتّتة. العدّ التنازليّ لرسم مسار الصراع بين الإليزيه و "السترات الصفر" ربّما بدأ مباشرة بعد كلمة ماكرون المتلفزة...

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم