السبت - 20 نيسان 2024

إعلان

لحظة واحدة تكفي

المصدر: "النهار"
جلنار
لحظة واحدة تكفي
لحظة واحدة تكفي
A+ A-


لحظة واحدة فقط تكفي لإعادة إعمار ما هُدم في أنفسنا. ولحظة واحدة كافية لهدْم ما اعتقدنا أن أوتاده متينة ولا يمكن فكّ وثاقها. قد تكون لحظة فُرضت علينا أو كلمة أو خياراً مَضْينا به أو قراراً كان حاسماً بقدر التغيير الذي أحدثته اللحظة ذاتها. هناك أشياء تحدث لتحدث، تشبه بسرعتها وغفلتها، الموت والولادة، فاصِلة بمرورها ما قبلها عمّا بعدها. ذلك ما يجعل المواقف الكبيرة على امتداد زمانها في ذاكرتنا "لحظة فارقة" نحملها وزراً أثقل من الألم الذي أُختزل فيها وتبقى بعدها تنخر الذاكرة بوجعها المضني على أنها "لحظة"، مخلفة وراءها زمنها الحقيقي.

هناك لحظات توقع بنا في شرك ظروفها، تشبه تلك اللحظة التي تجاهل الرئيس الأميركي وودرو ويلسون رسالة وصلته من رجل فيتنامي كان يطمح حينها بمقابلة الرئيس ويلسون ويحمل خطاباً معتدلاً بأحلامه الكبيرة بوطن مستقل عن فرنسا، متلمساً تعاطف ويلسون لقضيته، لكن تجاهل الأخير جعل هو تشي يترجل عن اعتداله ويعتلي جنون حرب العصابات التي شطرت فيتنام إلى شطرين، ليصبح الرئيس الأول لفيتنام الشمالية. هل كان يدري ويلسون أنّ تلك اللحظة التي تجاهل بها رسالة هو تشي منه أنه يمضي نحو الحرب الفيتنامية؟

النفط بكل شروره ليس سوى انقلاب اللحظة علينا، كحين تحوّل البحث عن الملح إلى لعنة ومصدر للحرب والموت. تلك اللحظة التي وجد العمال خلال بحثهم في آبار الملح سائلاً أسود، وبعدها أضاءت البحوث نيران الحروب للسيطرة على الذهب الأسود، وقُلبت أحوال دول ما كانت إلا غباراً على خريطة الاقتصاد لولا أنّ سطح أرضها يدفن في جوفه كنوزاً قادرة على قلب موازين الكون.

هناك أحداث فاصلة لكنها ليست سوى لحظات، كلحظةٍ عاطفةٍ عابرة وربما باردة، لكن أثرها حار كنارٍ لا تخمد. هل يعلم الجندي البريطاني هنري تاندي أنه في اللحظة التي قرّر أن يعفو عن جندي ألماني جريح أمامه وهو على وشك إطلاق رصاصته القاتلة نحوه أنه كان بعفوه يقتل الملايين؟ وأنّ الحياة التي منحها للجندي الألماني المصاب هي الممات الذي يتكئ عليه اليوم بعض الصهاينة في قتلنا انتقاماً من الهولوكوست ليتعاطف العالم معهم ويجعل منهم كياناً يملك قوّة تكفي لتدمير الكرة الأرضية؟ فذلك الجندي الألماني المُصاب كان هتلر الذي قتل على يده ستة ملايين يهودي في المحرقة. ذهب هتلر ومَن عفى عنه، وبقيت اللحظة تتدفّق آثارها بقوّة نحونا حتى الآن.


الأمثلة ليست سوى بعض مما يمكن أن يحدث معنا كل يوم. هناك ثقل نعجز عن حمله، ثم تأتي كلمة واحدة لتخفيه كأنه لم يكن. وهناك فرح فائض قد يجفّ في ثوانٍ. بعض اللحظات لا تمضي. لا يمكن لها العبور. تخيط لها مكاناً وزماناً في حياتنا، لتصبح وجوداً حقيقياً تُلزمنا على قبولها. لحظات لا تنطفئ، كساعة من تراب آخَر؛ ذرة من ترابها تسقط مع نهاية العمر.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم