الثلاثاء - 23 نيسان 2024

إعلان

كتاب - إيزابيل الليندي قارورة خزفية لرماد جثمان

نزار عبد الستار
A+ A-

الواضح ان دونيا إيزابيل الليندي غير متأكدة من شيء قدر يقينها المحسوس انها قارورة خزفية لرماد جثمان. ثمة ملابسات فوضوية وحظوظ مدمرة تجعل الروائي غير قادر على مناهضة حقيقته. تلك الحقيقة الخلاقة التي غالبا ما نفشل في اكتشافها. البعض منا يؤمن بنظرية ضربة الحظ، ومن غير المستبعد ان يعتقد احدنا انه لو قُدِّرت له مصادقة مندوب دار "بلازا وجانيث" الاسبانية، ريكاردو كافاييرو، فإنه برواية واحدة قد يفتح الاندلس من جديد. اوهام كهذه لا صلة لها بمعاناة الموهبة. انه فن يشبه التيه الذي غاب فيه المغامر الاسطوري انطوان دو سانت اكزوبيري من دون ان يحقق الموت.


في كل دقيقة تصدر رواية، لكن من الصعب معرفة إن كان كاتبها قد تكلم عن حقيقته الحقيقية. ليس الجميع يعرف ان بلزاك كان غرفة مؤثثة على طراز لويس السابع عشر، وان فلوبير ثدي أم يقطر حليبا، وان فرجينيا وولف ساعة جدار عاطلة، ونجيب محفوظ مقهى في منتصف النهار. مشكلة الرواية الكبرى انها ليست واضحة ومعلومة مثل كتاب لتعلم فن الطبخ. توجد نصائح عدة ولكن الغموض يلف الكثير من الكتب التي تفسر محنة الكتابة. اعتقد ان الصورة الاصح ان هؤلاء العباقرة تربطهم مصائر تسير بهم نحو اكتشاف فطرة الروي بطريقة غير متكلفة. انهم لا يجدون في انفسهم ميزة واضحة سوى القدرة على التعامل مع الشهرة ببرودة جبل ثلجي. دونيا ايزابيل الليندي تبدو طافحة بفطرة انها امرأة مصابة بحب الانجاب، وانها صورة حديثة منسوخة من سلسلة مكررة من الجدات. اغلب العباقرة لا يبدو عليهم انهم عاشوا احداث روايتهم، وهذا بالتحديد يظهر جليا على دونيا ايزابيل الناشطة في الحس الانثوي. في رواياتها دائما ثمة امرأة تولّد قوة خرافية للقاء الرجل المناسب. هو ليس الاصرار المعروف وانما هو التمسك بطاقة الأنوثة لنيل السعادة؛ فعادة ما يتأخر الرجل المناسب كثيرا ويكون لزاما بذل المعجزات للامساك به في الفرصة الاخيرة. انها مواقيت نسائية خاصة تفرض حبكتها.
دونيا ايزابيل تختلف عن عصبة الروائيات الامميات بـأنها لا ترسم باباً وتسمح للقراء بالتلصص من الثقب. لقد اعتدنا على وجود أزمة جسد واعترافات، لكن الكاتبة التشيليانة القصيرة التي لها نظرة ضفدعة تقرن الحب بالهجرة، فكل بطلاتها يهاجرن بحثا عن الرجل. نساؤها لسن مستسلمات وانما يخلصن للبهجة. الروايات تشبه الكذب الكاريزمي. انها مبالغات استعطافية مثل ادعاء المرض لجذب الاهتمام، لذلك دائما هناك حشد هائل من الاحداث التي ترسم مسارات تكوينية لمدن وجمهوريات ولبشر يرتدون قبعات الثوار بينما الحقيقة ان الامر يتعلق برغبة امرأة قلقة على سنوات باقية من عمر الجمال. انه الاصرار الاكثر متعة من صورة الجسد.
النقد الادبي لا يعرف ان ركوب الدراجة الهوائية هو مركز التفكير والموهبة عند رجل خفيف الوزن يدعى محمد خضير، وان امنية كونراد المطلقة ان يسمح له بإمساك الدفة، لذلك يعد النقد اكثر مفاصل الابداع غباء. مع دونيا إيزابيل تتجلى الاوهام عارية وبلا مساحيق تجميل. يمكن ان نكون اكثر انصافا ونقول ان الامر برمته ليس استثنائيا، فنحن نتورط في الشقاء الابدي من اجل فراش مشروع، فما الذي يمنع من ربط احتلال اسبانيا لاميركا الجنوبية بقصة امرأة تعشق قائدا عسكريا فتدير جيشاً من المعتوهين وتؤسس مدنا استعمارية جديدة من اجل ان يبقى القائد المتهور في فراشها، هكذا هي روايات التشيليانة ايزابيل. تنبع من ارادة المضي قدما من اجل الوصول الى الرجل الاخير في حياتها. القيمة العظمى للرواية انها حلمنا اليقظ. من يحقق لنا هذا، يكون روائيا برغم انفنا. دونيا ايزابيل واحدة من بين نساء حملن الحقيقة في ارحامهن. ان المرأة كفكرة تكون مفهومة اذا اقترنت بالمفهوم التقليدي للمنزل او البيت الاسري.
الزمن الذي عاشته أسرة آدم قبل ان يأخذ عزرائيل اول روح بشرية، لم يحتو على افكار ذات قيمة. اتوقع انها مجرد اخيلة في شأن الطعام وبعض الخجل في شأن ممارسة الحب في العراء الطلق. من هنا يكون الموت صدمة ايزابيل الليندي الكبرى. انها تحدثنا من دون ملل عن باولا ابنتها التي ماتت في سن مبكرة. ان التحول الاخير الذي وصلت اليه هذه الروائية هو ان تكون قارورة خزفية لرماد جثمان باولا: الابنة التي رحلت قبل الاوان. الموت عدو الحب الاكبر، لذلك فان اعظم قصص الحب كانت تنتهي بموت الحبيبين. انه الوفاء الوحيد المنطقي لمفهوم ابدية العشق. دونيا ايزابيل تكلمت عن الموت بأناقة. النساء هن العلامة الاكثر سطوعا للحزن. جنازاتنا تحتاج الى مبالغات النساء. انه حب من النوع المأتمي، لذلك لم يعد مجديا حبس الحرقة. اعتقد، وهذا مبعث انتشائي الكلي، اننا بهذه الاوهام فقط نستطيع ان نقدر الفن.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم