الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

نبيل الأظن أدّى أمس عرضه التراجيدي الأخير في أفينيون

المصدر: "النهار"
عقل العويط
عقل العويط
نبيل الأظن أدّى أمس عرضه التراجيدي الأخير في أفينيون
نبيل الأظن أدّى أمس عرضه التراجيدي الأخير في أفينيون
A+ A-

تعرّفتُ إليه في باريس، من طريق الشاعر عيسى مخلوف. قصدناه سيراً من الحيّ اللاتيني إلى محترفه المسرحي،les Dechargeurs، في المنطقة الخلفية من الشاتليه، حيث كان يعمل على إحدى مسرحياته الاختبارية مع فرقته الفرنسية.

كان ذلك في غابر الزمان. في أواخر التسعينات من القرن الماضي، أي قبل نحوٍ من عشرين سنة، على ما أعتقد.

لم أعد أتذكّر مكان المسرح تماماً، إلاّ أني أتذكّر الرذاذ الباريسي الخفيف، متلفّعاً بضبابٍ شعريٍّ، ليّن ومطواع، هو لزوم الفضاء الخريفي الآسر. وخصوصاً في العاصمة الفرنسية.

كلّ ما أذكره عن ذلك، يتعلّق بإنوصال المكان الباريسي ذاك، بمسرح الشاتليه، وبمسرح سارة برنار، وبإيحاءاتٍ جغرافية وبدلالاتٍ أقرب ما تكون إلى عالم الشعر والفنّ. وهو عالم باريس بامتياز.

لا يغيب عن بالي، مناخ ذلك اللقاء، المتلفّع بحالٍ من الرذاذ والضباب الخفيفَين.




أكانا، يا ترى، ناجمَين عن الزمن أم عن الحالة، أم عن كليهما؟ لستُ أدري تماماً. لم أعد أدري حقّاً.

كلّ ما يعنيني الآن، أني أستحضر رجل المسرح ذاك، اللبناني الأصل، الفرنسي الحضور، بلغته الفرنسية الأنيقة، المقطوفة، وهو الخفيف، الليّن، المتنبّه، الشديد الاستغراق في ما كان يقوم به، منصرفاً إليه، بكلّيته، بانسجام مَن ينسجم مع روحية الشغل المسرحي، التي تعكف على الممثل، على حضوره الجسدي، على وقع الكلمة في الفضاء، ومدى انسحاب ذلك كلّه على المتلقّي في تلك اللحظة المسرحية.

خرجنا بعد ذلك، مع نبيل الأظن، لنشرب النبيذ، إثر نزهةٍ في ليل باريس الرخيّ. لنلتقي بعد سنوات، في "معهد العالم العربي"، في عشية 10/10/2002، بترتيبٍ من الشاعر عيسى مخلوف، حيث دعتني مكتبة "المعهد" إلى لقاء شعري، قدّمني فيه المشرف على لقاءات الأربعاء في "المعهد" بدر الدين عرودكي، ووضع نبيل الأظن لمساته الإخراجية، مطوِّعاً ترجمة بعض قصائدي بما يتوافق مع متطلبات الأداء المسرحي والشعري الشيّق.

كانت تلك المناسبة، لحظةً لا تتكرّر، لسببين؛ الكَرَم العقلي والروحي، مقروناً بلذّة اللقاء بين الشعر والمسرح، في غمرة الجمهورَين العربي والفرنسي، اللذين تفاعلا مع اللحظة، وملأا الصالة، ففاضت على اتساع.




ينبغي لي أن أضيف "سبباً" آخر جعل تلك الليلة محفوظةً في قلبي. فقد كتبت "النهار" في عددها الصادر صباح اليوم التالي (11/10/2002)، أن الأمسية كانت "سماءً أخرى في الفضاء الأدبي الباريسي"، وقالت عن الأظن إن "المخرج المسرحي المعروف نبيل الأظن قرأ بالفرنسية بعض القصائد بأداء ممسرح لافت فتح آفاقاً أمام الشعر وغاص عميقاً في مناخاته كما قدّم برهاناً على قدرة الشعر على أن يطير من لغته ليكون ناطقاً باللغات كلها. بصوت هادئ ومتمكن دخل نبيل الأظن الى أسرار الكلمات وإيقاعاتها ومنحها تلاوين صوتية ودرامية ساعدت في الولوج الى عمق القصائد ومكّنت الجمهور الفرنسي من عيش التجربة الشعرية بصورة حية ومباشرة".

لقد أسرني الرجل المسرحي، وترك فيَّ ذكرياتٍ لا تُمحى.




حضرتُ له في بعلبك "مهاجر بريسبان"، في صيف 2004. وكنتُ أتتبع بين حين وآخر، الصدى الطيّب الذي تلقاه عروضه في الأوساط المسرحية والأدبية الفرنسية، من دون أن تتاح لي الظروف الموضوعية لتعميق المعرفة بشخصه ومسرحه.

كان نبيل الأظن في أفينيون، عندما اشتدّ عليه المرض الشرّير الجبان، بعد كفاحٍ استمرّ لسنتين، فآثر الرجل أن يترك للجلّاد أن يفعل فعله الأخير، منسحباً إلى حيث يستطيع أن يؤدي عرضه المهيب في رقصة الموت المفجعة.

[email protected]

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم