الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

ثلاثة وجوهٌ يُعلِّقُها نغمٌ واحدٌ

المصدر: "النهار"
نجم الدين خلف الله
A+ A-

أخيرًا، قرّرتُ أن أرفعَ الرايةَ البيضاءَ. سأذهب صاغرًا إلى طبيبِ الأعْصاب. سأطلب منه أقراصًا مُهَدِّئَةً. لم يَعد رأسي يتحمل هذا الأرَقَ الذي يستمرُّ من شُهور. راوغتُ النومَ بكل الوسائل، فانفلتَ هازئًا. في جُنح الظلام، أراه قابِعًا أو متكئًا، كأنه يُدخِّن سيجارًا ضَخمًا. عن بُعدٍ، يَبتسم في مكرٍ. بل قَد أسْمَعُهُ يُقَهْقِه في استرخاءٍ. لا يَعبأُ بِسنّي ولا بما كابدتُه في مهنتي لسنواتٍ طويلةٍ. َطالما تَرجّيْتُه أن يَهَبَني ولو ساعةً أو ساعتيْن في اليَوم. استوتْ لديَّ فتراتُ الليل والنهار، فَتَتابعت ساعاتُها ثقيلةً مديدةً. لا فرق بَين واحدة وأخرى إلا بالرَّتَابَة والخِذلان.

هاتفتُ سكريتيرَةَ العِيادة الطبية. أجابتني بصوت باردٍ. كأنَّ جوابها صيغةٌ جاهزةٌ تُرددها لكلِّ الزبائن: "لا موعدَ قبل أربعة أشهر. كلُّ أوقات الدكتور مَشغولَة. حاولْ، إن شئتَ، أن تهاتِفنا مرةً في الأسبوع لنرى إن كان هناك َمَن يُلغي مَوعده. بصراحة، أستبعدُ ذلك. مع السلامة".

أربعة أشهر كاملة؟ لن أتحمل الانتظار. سأجرِّب الأعشاب الطبيعيَّة. في طفولتي، كنت أسمع أمي تردد أنَّها نافعة وتُساعد على النوم العميق. ماتت أمي من سنَواتٍ. نَسيتُ حقيقةَ تلكَ الأسماء التي كانت تُطلقها على الحشائش. كانت تَرطن بعفوية: "هذه خُزامى، وهذا شيح، زعتر، عَرعَر...". أيُّها يُساعد على النوم؟ كلُّ ما أذكره أنها كانت تخلط بَعضَها وتضيف عليها بَهارات مُرَّةً. كيف سأقبض على معاني هذه الأسماء بعد أن صارَت تَتراقصُ شامتةً؟ ليتها تَثبت ولو لثانيةٍ حتى أمسكَها.

رَحَلتْ أمي ولم أدرك أيامَها الأخيرة. لم أرافق حشرَجَتها حين غادرتِ العالَم. غادرتنا، أبناءَها التسعةَ، بعد أن غاصت في أحشائها آلامُ الولادات المتعاقبة. عَشرةُ ذكورٍ. مات أحدهم بُعيْدَ الولادة. راحت هدرًا صيحاتُها في الظلام. حتى الأعشاب لم تسعفها.

ما الذي يُقضُّ مَضجعي؟ دوّى نشيجُ أمي. تَضع أخي السابعَ وهي تستغيثُ: "يا محمد ! احْضَرْ". ثمَّ يتلاشى نحيبُها في ظلام غرفتنا الضيقة نغمًا. وَدَّعتُها قبل أن أهاجرَ مع ثلة من أبناء بلدتي الفقيرة إلى فرنسا. كنا نَحلمُ بالهِجرة، فقط لنعودَ بسيارة فارهة تجوب أحياء البلدة، في فَصل الصيف. تجوس خلالَها محمَّلةً بالعطور والشمبوا والعِلك الأخضر والأحذية الرياضية... ما كنت أتوقع أن يمتزج حُلمي بعَرَق المترو وصَفيحِه البارد. عندما أعود إلى "خبز أمي"، أسمع زغاريدَها مُدويَّةً تشق الفضاء، تَملأ الأرجاء، لا تتركُ للفرح كونًا إلا وطافت به. كانت زغردتها هزةً في عِبارات الجسد، تتمدد في الفضاء وتسير، في الأثير، خَلجاتٍ عارمةً. كانت أمي تضمني وتبكي. ولما تنتهي لحظات العناق، تَحمد الله أنني لم أرجع بِرومية (فرنسية)، ولم تبتلعني الغُربة. زغاريد أمي من ألوان أرَقي، بل هي مادَّتُه ومَداه.

ما من دقيقة، من دقائق الظلام، ترتَدُّ أمامي إلا وعادت بي إلى تلك اللحظة الفارقة. رَنَّ هاتف الغُرفة القديم قاطعًا سكونها. "الوالدة الدائم الله !" أقرُّ أنني لم أراعِ حُرمَةَ نشيجها وهي تَلدنا الواحد تلو الآخر، وأني تركتُها لاهثًا وراء صَخبِ "مدينة الأنوار"، وما يعجُّ فيها من طوابير السيارات التي لا تهدأ منها الأصوات، ليل نهارَ. فَجَأني الخَبرُ. تاهت بي الظلماتُ، وثَبَتَت، عندَ الصدمة، زغاريدُها. وهي ذاتها التي ظلت تُؤنِسني في ساعات العمل الليليّة.

ها هو وجهُ مديري يلوحُ مُقَطِّبًا. أمضيت خمسًا وعشرين سنةً في شركة مترو الأنفاق بباريس تحت إشرافه. أعالج السككَ الحديدية الباردة، أصففها وأتفقدّها ضمن فريق الصيانة والتدخل السريع الذي يعمل من التاسعة ليلاً حتى الرابِعَة صباحًا. تعتادُني أصوات القاطرات المدوية في الليل وتُزعج مني السكون. كان مديري، مثل النوم، لا يَفهم ولا يَرحم. هل تسبب لي في "بيرن أوت" بَعديٍّ، كما يقولون هنا في فرنسا. سمعت هذه العبارة في نشرة أخبار الثالثة صباحًا. يهرُب النوم، فأفتح الراديو عساه يهدهدني. لكن، دون جدوى. آخرَ يومِ عَمَل، نظر إليَّ المدير بابتسامة صفراوية: "أنتم العربُ، علاقتكم مع العمل ملتبسة. "علاقة ملتبسة" جدًا ! أغلبية عُمال الليل من المغاربة والأفارقة السود. وللفرنسيين مراكز الإدارة والإشراف...

في أنفاق المترو، شهدتُ حادثةَ دَهسٍ رهيبة راح ضحيتها زميلي الغابوني. لم يكن يتقن الفرنسية. مُهمتُه روتينية، يكررها عَشرات المرات في الليلة الواحدة. هَجمت عليه قاطرةٌ فدَهسته حين كان منكبًا بكلاليبه فوق صفيحة الحديد. لم يَتَسَنَّ له الانسحابُ في الوقت المناسب. كانت صافرتُها مدويَّةً شقَّت سجفَ الظلام. امتَزجَت بصيحته القصيرة. ولا يزال طَنينها في أذنيَّ، يُضخِّمُهُ مَشهدُ الأشلاء الممزقة والدماء المتطايرة. لـَملمت الإدارةُ الملفَّ واعتَبَرته "حادث شغلٍ". كان عليَّ أن أدلي بشهادتي في هذا الحادث. وجَّهَ المدير لفريق العمل تهديداتٍ ضمنية جدًا، جدًا، إن لم نُؤَكِّد روايتَه: "حادث شغل ناتج عن خطأ بشري، ساهم فيه إرهاق الزميل وغلبة النوم عليه". تسلمتْ زوجتُه، وهي أيضا غابونية، تعويضًا ماليًا رمزيًا. رأيتها أثناءَ مراسم الدفن، وقد اتشحت بسوادٍ على سوادها. كانت عيْناها غائرتيْن تائهتيْن. لم تعِ كثيرًا شعائر رَفع الجثة من المستشفى الفرنسي. في شعائر الموت الإفريقية جلبَة وبُخور وأهازيج. وهي هنا باردة. ما لبثت أن أطلقت الأرملة عويلاً قَطَّع القلوب. بلحْنٍ إفريقي حزين، كأنما تنبعث أهازيجها من أدغال الغابون، حيث تنام الأساطير ببطءٍ على عَبق البهارات وآهات الجسد الأبنوسي المتعرِّق. ومثل تأويب الجبال، كان صدى أهازيجها يملأ الـمِشرَحة. وأما طِفلاها فعيونٌ غائرةٌ في الأفق. لا يَريان في "الحادث" سوى تهشيم جَسدٍ كان تمثالاً. وَجَمَ المدير ومساعدوه كأنما يسمعون القاضي يُصرِّحُ بحكم إدانتهم. تظاهروا بالتأثر، مع أنهم بجُرمهم مقتنعون.

سأداعب النوم. بل سأغازله عساه يرحمُ. "يا ليلُ ! كان الشعراء يتغنون بكَ، ويستذكرون فضيلتكَ في التسَتر على المحبين. أذكر مُسافِرَةً تستخدم المترو كل صباح. أراها حين أعود للبيت مستقلاً أول مترو بعد الفراغ من عَملي. كانت تستقله ثلاثة أيام في الأسبوع. تَركبه من مَحطة شاتليه بقلب باريس. تحافظ على نفس الأناقة مهما تغيَّرت الفصول. لا تتغيَّبُ ولا تَتَخَلَّف عن الموعد كائنًا ما كانت الأحوال. ما يزال مُحيَّاها الجميل يتراءى لي. ها هي تجلس ضمن المقاعد الأربعة المتواجهة، تطالع الجريدة المجانية التي يُوزِّع أعدادَها، كلَّ فَجرٍ، بعضُ الباعة الواقفين على أفواه المحطات. أتابع حركاتها وأتملى ارتعاشَة أهدابها. أحيانا تغفو. تعود صورتها ساحرةً كلغزٍ. فاتنةً كَأسرار الجرائم. ماذا تشتغل؟ اكتفيتُ بانتظار أول مترو لأغتنم تلك الدقائق الثمينة في صحبتها، عن بُعدٍ. هل فطنت لوجودي طوال تلك السنين؟ أم كانَتْ مُجرَّدَ طيفٍ غائمٍ، مما تموج به قاطرات باريس؟

مرَّةً، غالبتُ حَيائي ودَنَوتُ منها. ألقيْتُ عليها تحيةَ الصَّبَاحِ. ردَّت بأحسنَ منها. "أتَبدَئين شغلكِ باكرًا؟، سألتُها. أجابت: "أعملُ مقوِّمَةَ نُطقٍ للأطفال. وبعد الظهر، أشتغل ممثلةً في الكوميديا الفرنسية". "ولكنْ فيمَ هذا التبكيرُ؟" "حفاظًا على صَفاء الصوت من لَوثة النَّهار. في ساعاتِ الفَجر، أسجِّلُ مقاطعَ للمرضى يتدربون على إعادتها. ثم يأتي الأطفال بدءًا من الساعة السابعة...آآآآآ، أووو، إيييييي....وإيقاعاتٌ أخْرى تشدُّ ساعاتي..."

تتجمع هذه الصور المتباعدة مع روائح العطور والأصداء فتشكل مثلَ غولٍ يَزأر. ذلك الغول التي كانت أمي تخوفني به وقتَ القيلولة وتحملنا على النوم فَنَأبى. تلجأ إلى أسطورته حتى يغلبَنا وإياها النعاسُ في أوقات القيظ الشديدة. كم أفتقد تلكَ الحرارة هنا في صقيع باريس؟ عندما أحدِّثُ أبناءَ قَريتي عن أنفاق المترو لا يفهمون. يتصورونه مجرد كائنٍ أخضَر، كأنه أم أربعة وأربعين ضخمة، تقطع الطرقات والقناطر. يعلو ويتنزل كأنه صيحةٌ إفريقيَّة أو إيقاعُ مُنشِدَةٍ.

قررتُ ألاَّ أقهرَ النوم. حتى تلك الساعة التي يَمتنُّ عليَّ بها. لا أحتاجُها. فَليحتفظْ بها. لن أغنِّيَ ولن أشرب أيَّةَ خلطة سحرية. لا ولن أطالع أيةَ كلمة. بل سأنزل إلى محطة المترو حيث اشتغلتُ لسنوات طويلة. سأوقد ثمة نارًا، كما كنت أفعل أيام الشتاء القارس. سأحمل معي أوراقًا وأقلامًا لأرسمَ وجوههنَّ: أمي، زوجة زميلي ومسافرة الفَجر. سأصفف وجوههن الثلاثة في لَوحةٍ واحدة. وبعدها سأنشدُ لحنًا مَمزوجًا، أنظمُ في مقاماتِه أهازيجَ الباديةِ بترنيمَة الأوبِرا وإيقاعِ الأدغال.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم