الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

ناسكة الضباب

المصدر: "النهار"
جورج شكرالله
ناسكة الضباب
ناسكة الضباب
A+ A-

عند فجر ذلك اليوم، دخلتْ ناسكةُ الضّباب، بثوبها اللجيني معبدَ الثلج المقدّس. تناولتْ مبخرةً من نسيم الأودية، معلّقةً قرب المذبح ولوحّت بها يمينًا وشمالاً فترة وجيزة.

أعادتِ المبخرة إلى موضعها ودَنَتْ من كتاب "روح الأيل" المرصّع بنقاط الندى، فأضاءتْ خيطًا من الشمسِ فوقَه، ونفضت عنه بقايا غبارٍ علقتْ عليه لحظاتِ مرورِ النحلِ فوق الأكمات الزهريّة، ثمّ أحنت رأسَها فأودعته ثلاثَ قبلاتٍ ملؤها المحبةُ والخشوع والتواضع.

اِستقامتْ فترة قرب المذبح، متأملةً هذا التواصل المستمرّ بين الأرض والسماء، رغم الفراغ الهائل الذي يفصل الأرض عن السماء وقالتْ إِلى نفسها: لا بُدَّ وأنّ الشوق مشترك، وأنّ الإنسان، هذا الإله الأرضيّ، ما هو سوى قيمة روحيّة نَمَتْ وشبَّت فوقُ، قبل أن تنزل إلى الهيكل البشريّ على الأرض!

وإِذِ انتهتْ من ترتيب المذبح، ملأت كوبين من خشب الصنوبر بالخمر والماء، وفلشت الشرشف البنفسجيّ بدقة وأناقة، أخذت تتنقّلُ، والأملُ يبرق في عينيها، في بهو المعبد المغروسةِ زواياه بأربعة أغصانٍ أرزيّة مضاءة.

في تلك الساعةِ، لم يكن يُسمعُ في الداخل، سوى حفيف أطراف ثوبها بأرض المعبد، وأصداءِ صلواتٍ بعيدة آتيةٍ مِنْ غابات الغيم.

نظرتْ في جميع جوانبه، فَبَدَتْ لها جدرانُه تموّجات أتعاب الراحلين، وقد انتصبت بين الماضي الصامت وفيه صدى أعمال الاجيال الغابرة ورائحة الحركة في سواعدهم. والحاضرِ المتكلّم الممخورةِ عبابُه بجلبة الأحياء من كبار وصغار وتزاحم هؤلاء الكبار والصغار الخفيّ والظاهر، لنيل كلِّ ما يريح نفوسَهم وأجسادهم في هذه الحياة والآخرة. وظهر لها فضاؤه تلك الخابية الكوثريّة الفائضة بخيالات الألى وقفوا فيه، فرتّلوا وأنشدوا قبل أن تحملهم أجنحةُ الأبديةِ إلى رحابها السرمديّ. أمّا درجات المذبح التي صعدت عليها واحدة فوق أخرى، فقد تراءتْ لها شبهَ مساحات متناسقة، تتوهجُ بأمانة البنّائين ودأبهم في إِنجاز كلِّ ما توجبه عليهم شروطُ بناءِ المعابدِ، حتى تكتملَ وتكونَ غايةً في الروعة والهندسة. كما ذكّرتها بأن المذبحَ إِذا لم يكنِ الصعودُ إليه ارتقاءً لا يكونُ مقدّسًا ومقبولاً في نظر الربّ الإله!

لحظةَ حنين وانتظار، وفتحتِ الكتابَ المقدّس بهدوء الطائر في أعماق الأودية، وشرعتْ ترتّل بصوتٍ تراكضَ كظلال الغيمِ فوق الجبال:

أيتها الزهرة الصاعدة من بين الصخور لتجرحَ جبينَها الطريءَ مناجلُ الريح، صلاةُ الأنبياءِ عليكِ وفرحُ الأجيال فيكِ.

كثيرةٌ هي الخيوط التي تنسلُّ من نوافذ الليل، لتغمسَ قلبَك بالظلمةِ، وتتشابكَ متراقصةً فوق سطوحِ كينونتكِ.

جمّةٌ هي الرغبات التي تتفيأ ظلّك هانئة قريرة العين، وتلعنك صبحًا ومساءً، لأنّك وُهِبْتِ نعمةَ الظلِّ.

غفيرةٌ هي النفوسُ التي تنشدُ الخلاص فوق أدراج هيكلكِ، وترجمُك لأنها تبقى زانية ودروبك تستمرّ مسالكَ للحجّاج ..

أيتها الزهرة أنتِ صلاة البحر في غمرة البروق والرعود واضطراب الأمواج. أنتِ فرحُ الجبال في لحظات قرقعة الصخور وهي تندحر إلى الوادي. أنتِ أنشودةُ الأشجارِ في خضّمِ العتمة والوحدة وتساقط الأوراق...

أنتِ هتاف الله، اللهِ الذي هتفَ لكِ من أعماق قلبه وأنت تعانقين ذاته المطلقة: هذه ابنةُ البراري التي بفجرها السنيّ سُررْتُ.

نحن الواقفين في حقول الشوق واللهفة، نطلبُ ونضرعُ لآلهة النجوم أن تحرس وقع خطاك الرقيقة البيضاء، وترفعَ بأناملها الفضيّة أذيال ثوبك الأرجوانيّ وأنتِ تعبرين. نحن الواقفين لا نجهلُ أَنَّ طريق السائرين إلى بلاد الخلود محفوفةٌ جوانبُها بالصدمات والأهوال والتجارب، وتعبرُ فوق جسور يعجُّ فراغُها بضجيج الأشباح وأخيلتهم التي تظهرُ وتختفي كما الأفعى بين الصخور. نحن نعرف أنّ صمتَ العظيم وهو يسير في مواكب البقاء، لا يعكّرُ صفوَه إلاّ غدرُ ذلك الذئب المتربِّص في الغابة. ولا يغربنَّ عن بالكِ أيتها الزهرة العظيمةُ أنّ عَرفْكِ يفوح دومًا من نوافذ الشوك التي تشرّعها الأيام الجاهلةُ على قُدْسِ هامتكِ.

أنا هنا أنتظركِ، فيما العواصفُ والصواعقُ والأعاصيرُ تصفع المعبدَ من كلِّ جانبٍ، وأناشدكِ بروحي الصخريّةِ الآتيةِ إليَّ من مواقد الشتاء أنْ اصعدي من بين الجراح والرّماح، كما النبيّْ من الزحمة جلّيةً قويّةً وطاهرة. ولا تنسي أيتها الزهرةُ أنّ دماء الجراح هي .. هي ماءُ القيامة العظمى!

أنا هنا أذيبُ روحي، فلا تخافي وتشجّعي!

أنشدتْ كلَّ هذا وهبطتْ درجاتِ المذبح واحدةً إلى أخرى، يهزُّ أعماقَها نداءُ الحياة، وتداعبُ أوتارَ روحها أصابعُ اللقاء الأكبر.


وفيما كانت تصعد على أجنحة الأثير، لتعودَ إلى ديرها العوسجيّ، حانت منها التفاتةٌ جهةَ الشرق، فأبصرتْ فوق تلّةٍ من الثلج زهرةً تتقاذفها الأرياحُ ونهرًا من الدماء ينبجسُ من أوراقها ويصبغُ تلك الجهات ...

تسمّرت في مكانها مشدوهةً، ونسائمُ الانتصار تلامسُ صفحاتِ نفسِها كما الأماليدُ تلامس صفحات مياه الغدران ثمّ صاحتْ:

صانتكِ يدُ الآلهة أيتها الزهرة. فلأنت ابنةُ الديمومةِ التي نستحقّها منذ الأزل. ولأنتِ الحياة.

كما أن الجرّة تكون فارغةً، إذا كُسِرتْ ولم يجر منها الماء. أيضًا الحياة تكون فارغةً إذا جُرحت ولم تنزفْ منها الدماء.

سلامٌ لك يا ابنةَ الديمومةِ المباركة، سلامٌ لك يا نهرَ الدماء الحيّ!

فَاهتْ بهذه العبارات، بصوتٍ أرقَّ من عبور القمر فوق الوهاد والتّلال في ليالي الصيف، ثم ارتقتِ الأثيرَ صوب الدير، فيما راحت ثيابُها الضبابيّة تُغلُّ في مواقد الريف.


*نص مقتطف من كتاب "رقصة في العواصف" و "قمر الزمان والليل" للأديب والشاعر جورج شكرالله بطبعة ثاينة.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم