الثلاثاء - 16 نيسان 2024

إعلان

نحو صيغة سياسية للإعمار والتنمية في لبنان

المصدر: "النهار"
Bookmark
نحو صيغة سياسية للإعمار والتنمية في لبنان
نحو صيغة سياسية للإعمار والتنمية في لبنان
A+ A-
في خضم الجدل الدائر حول إعادة الإعمار والتنمية في لبنان، لا بد من ابداء بعض الملاحظات حول بعض المفاهيم التي يتم تداولها وكأنها مسلمات بديهية. إن الحرص على طرح بعض الاشكالات الاساسية يتيح لنا اغناء النقاش، ويحول دون الاستمرار في تفويت الفرص المتاحة. يتعلّق الاشكال الاول بالعلاقة بين الاستقرار المالي والاستقرار الاقتصادي؛ وهناك من يربط بينهما جاعلا الاولوية للاستقرار المالي. ولا خلاف حول ضرورة الاستقرار المالي، لكن ان يقود ذلك الى الاستنتاج ان الاستقرار الاقتصادي هو النتيجة الوحيدة التي يمكن، بل يجب، التوصل اليها، فهذا امر يدعو الى التساؤل لأن المطلوب هو النمو الاقتصادي، لا مجرد الاستقرار. ان تحريك الدورة الاقتصادية بما فيه دفع عجلة الانتاج وزيادة وتيرة المبادلات التجارية والمعاملات المصرفية هو الهدف؛ وهو امر يتطلب حدا ادنى من الاستقرار المالي. لكن هذا شيء والربط الجامد بين الاستقرار المالي والاستقرار الاقتصادي شيء آخر؛ فهذا المفهوم الاخير يقود الى الركود والمراوحة في المكان ذاته. لا يمكن ان تكون التنمية مجرد موازنة لحساب الواردات والنفقات في خزينة الدولة. هذه رؤية ضيقة، ولا تصلح الا في ظروف خاصة واستثنائية. ذلك ان التنمية عمل يحدد اهدافا بالاستناد الى الامكانات المتاحة ويسعى الى تفجير الطاقات الكامنة للمجتمع التي لا تظهر في اي ميزان حسابات، ولا في اي تحليل اقتصادي بحت. تنطلق التنمية من رؤية للدولة والمجتمع ومن علاقات واعدة مع الناس، فهي عمل اقتصادي وسياسي في آن واحد؛ انها اقتصاد سياسي وليست اقتصادا بحتا. يعالج علم الاقتصاد مسائل الانتاج والتبادل والتوزيع، وهي جميعها حصيلة عمل الناس؛ لذلك لا بد لهذا العلم، خصوصا عندما يتصدى للتوقعات المستقبلية من اخذ مشاعر الناس واراداتهم في الاعتبار. وما ان يسقط اصحاب هذا العلم ذلك من حسابهم ويعتبرون ان علم الاقتصاد هو مسألة تطورات موضوعية ينحصر العلم بها في اقلية من الخبراء، حتى يقع هذا العلم في الابتذال ليصحّ فيه لقب الاقتصاد المبتذل. يحاول بعض من يتصدى لوضع السياسة الاقتصادية من اللبنانيين اثبات ابتعاده عن السياسة والايديولوجيا، وذلك لاثبات طهرانيته فيلجأ الى تكرار كليشيهات يعتبرها امرا مسلما به، اي اغراضا غير سياسية. من هذه الكليشيهات مصطلح "البيئة الفريدة للتفاعل الحضاري في لبنان". لكن ذلك لا يبعد هؤلاء عن السياسة التي حاولوا التخلص منها، ذلك ان الفرادة صفة لم يتمتع بها المجتمع اللبناني في اي وقت من الاوقات، كما لا يتمتع بها اي مجتمع آخر. واذا كان ذلك المصطلح لا يعبّر عن واقع تاريخي بل يعبر عن وهم تاريخي لدى اللبنانيين، فإنه إن استخدم لوصف المستقبل لا يصلح الا لوصف الاوهام الصهيونية حول اسرائيل ووضعيتها في قلب الوطن العربي. وذلك ليس لأن اليهود يعتبرون انفسهم شعب الله المختار، بل لأن اسرائيل في المستقبل حين ترسو حال الصلح مع العرب سيكون لها وضع مميز جدا مما يدفع الكثيرين الى الاعتقاد بأن اسرائيل ذات فرادة لا يتمتع بها غيرها. والذين يعتقدون ب"البيئة الفريدة" في لبنان هم انفسهم الذين يدعون الى "استعادة دور لبنان المالي والاقتصادي في العالم العربي"، وكأن الدور الخاص الذي كان للبنان بعد الاستقلال يعود الى صفات ابدية سرمدية يتمتع بها لبنان دون غيره، لا الى الظروف التاريخية التي مرت بها المنطقة العربية في الخمسينات والستينات من هذا القرن؛ هذه الظروف التي تغيرت جذريا في التسعينات ما يستدعي تفكيرا عميقا في طبيعة المتغيرات والدور اللبناني السابق الذي اقتضته الظروف، وفي الخيارات المتاحة وسط ما نشهده من تغير عام وخاص. ان "دور" لبنان المستقبلي مسألة يقررها اللبنانيون من خلال عملية سياسية يشترك فيها مختلف الاطراف ولا يقررها بعض خبراء الاقتصاد "البحت" على اساس ان هذا الدور فرضية اولى. في الخمسينات والستينات كان لبنان "لا مقرا ولا ممرا"، بحسب تعبير الميثاق الوطني الذي يُعتقد انه وضع عام 1943. ثم جاءت تطورات الخمسينات والستينات في المنطقة العربية حيث اصبح لبنان "ملجأ" للأموال والكفايات العربية. وكان هناك شبه اتفاق عربي على ان يكون للبنان وضع مميز في تلك المرحلة. يضاف الى ذلك ان الازدهار الاقتصادي والثقافي الذي تحقق في لبنان نتيجة تدفق الاموال والكفايات العربية جعل المحافظة على التوازن الداخلي (بين الطوائف والمناطق) ممكنا، على رغم الخلل في توزيع الثروة. فقد كانت اوضاع البلد الاقتصادية تتحسن باطراد مما لم يترك مجالا لسماع الاصوات التي تحذّر من الخلل وتدعو لتصحيحه. باختصار، كانت صيغة 1943 ترتكز على عزلة "داخلية" بين الطوائف (وهذه العزلة هي تعبير آخر عن التعايش بين الطوائف المنعزلة عن بعضها البعض، ولا ارى ان العيش المشترك امر يختلف عن التعايش كما يحلو للبعض ان يعتقد) وعلى عزل لبنان عن تطورات المنطقة كي يبقى "ملجأ" لما ولمن يخرج منها. فلم تكن "البيئة الفريدة حضاريا" و"الدور المميز للبنان" غير تعبيرات ايديولوجية عن ذلك الواقع الاقتصادي والسياسي. هل يكرر التاريخ نفسه، علما بأن الظروف في لبنان ومنطقة المشرق العربي تختلف الآن جذريا عما كانت عليه؟ وهل يحق لنا ان نستمر في الحنين الى الماضي في وقت تلج المنطقة مرحلة تفرض تحديات صعبة؟ وهل كان الماضي اي مرحلة ما قبل العام 1975 جنة الله على الارض ومن دون اختلالات جذرية؟ وهل كانت الحرب المدمرة في لبنان غير نتيجة للاختلالات الاجتماعية والسياسية الداخلية والاختلالات في علاقات لبنان العربية والدولية؟ هذه اسئلة واشكالات يجب البحث فيها ومحاولة الاجابة عنها عند الولوج في وضع اي خطة للإعمار والتنمية في لبنان وتنفيذها، والواقع ان اي بلد آخر يواجه اسئلة مشابهة عندما يتصدى للتخطيط والتنمية. اي مستقبل للعرب؟ سيقرر شكل المنطقة العربية في مرحلة السلام مع اسرائيل بحسب ميزان القوى الذي يميل، الآن وحتى اشعار آخر، لمصلحة اسرائيل. وقد بدأ الاسرائيليون والقوى التي تساندهم يُعدّون لهذه المرحلة بصوغ افكار ومشاريع للمنطقة لربط مختلف اجزائها واقطارها باسرائيل والغرب؛ وقد درسوا العديد من المشاريع في مختلف القطاعات كالنقل والمياه والزراعة والصناعة والكهرباء وغيرها. وستكون المنطقة، على الارجح مفتوحة ولكن ليس على بعضها البعض، بل على مركز الهيمنة، وبذلك لن يكون الانفتاح تعاونا بين الاقطار العربية (علما بأن التعاون والتضامن العربيين هما شرطان ضروريان للتقدم والنمو)، بل سيكون الانتاج عاملا في ازدياد التبعية والسيطرة على الاراضي والثروات العربية. تريد اسرائيل ان تربط مرافق الخدمات ومصادر الثروة بها كي تعيد هي توزيعها على البلدان العربية، وتحتل مياه الانهار العربية (النيل والفرات والليطاني) اولوية في برنامجها. وتعتقد ان تفوقها التكنولوجي سيساهم في تحويل المواد الخام العربية وتسويقها، وان العرب المتأخرين...
ادعم الصحافة المستقلة
اشترك في خدمة Premium من "النهار"
ب 6$ فقط
(هذا المقال مخصّص لمشتركي خدمة بريميوم)
إشترك الأن
هل أنت مشترك؟ تسجيل الدخول

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم