الثلاثاء - 16 نيسان 2024

إعلان

ليلهنّ الطويل

جورج موسى
جورج موسى
A+ A-

كانت الساعة قرابة الثانية فجراً. يا الله، كم يبدو هذا الليل طويلاً. ثلاثتهن لا يستطعن النوم. لا تعلم أي منهن بقصة الأخرى. لكن ما يجمعهن أبعد بكثير من البقعة الجغرافية. هي الأمومة، ووجع مشترك اسمه الأولاد.


* * *


الأم الأولى تسكن في طرابلس. جبل محسن أو باب التبانة، لا يهمّ. المدينة كلها تنزف، وتلك الأم أيضاً. جرحها لا يسيل دماً. دموعها أقوى من الدم. عينها الأولى على ابن لم يتجاوز العاشرة، ويعيش خضّة - قل زلزالاً - منذ يومين. بعد جهد جهيد، نجحت في جعله ينام. هو غفا، فمن يقدر أن يغمض لها جفناً، وعينها الثانية على إبنها الأكبر؟ هو الآخر لم يتجاوز الخامسة عشرة... ولن يتجاوزها. بالأمس كان هنا، يملأ البيت حركة وصراخاً. بالأمس خرج إلى المدرسة. كان قلبها ينبئها بأن سوءاً سيحصل. لكنها لم تتخايل أن يأتي دورها في الجولة الـ18 من المعارك. ألف حيلة لجأ إليها المدير، قبل أن يفجعها بالخبر. لم تكن تحتاج إلى كل ذلك حتى تعرف أن ولدها البكر مات. أصابته شظية. كان في غرفة كبيرة، "آمنة" إلى حدّ ما من الرصاص والقذائف. التلامذة مجتمعون مع أساتذهم. بعضهم يبكي، بعضهم يرتجف، وبعضهم يلعن الساعة التي رضخ فيها لكلمة أمه فحمل حقيبته وذهب إلى المدرسة، فيما هو كان يريد أن يحمل سلاحه ويذهب إلى أحد محاور القتال! ما هي إلّا دقائق حتى بات المكان دماراً. صراخ كثير. أستاذ يحمل جثة مضرّجة بالدماء، وصوت صغير يردد من حينها إلى اليوم: هذا أخي، إنه أخي!


الأم الثانية تتحضّر لتسمع كلمة "ماما"، لكنها قد لا تسمعها. المكان حيث تقضي ليلتها، بات غريباً بالنسبة إليها، علماً أنها عاشت فيه 26 عاماً. هذه المرة الأولى التي تعود وتبيت في منزل والديها، منذ زواجها قبل عامين. الليلة، حزمت حقائبها وعادت إلى ذويها، بعدما فشلت كل المساعي بإقناع زوجها بأن تحتفظ بجنينهما الذي بلغ أخيراً الشهرين. هي تريده، زوجها لا. الجلاد - بنظر الكثيرين - هو أيضاً ضحية. يصعب على أحدهم فهم موقفه. يصعب على أي كان إقناعه بعدم صوابية قراره، أو بأخذه إلى معالج نفسي، يخفف من منسوب القلق الذي يعيشه. في الواقع، هو يرغب - وأكثر من زوجته ربما - بأن ينجبا طفلاً. أما سبب رفضه فيعود إلى كونه يخشى على هذا الولد أن يكبر في بلد يفتقر إلى الاستقرار كلبنان. لا يريد الطفل حالياً. المسؤولية أكبر منه. في نظره، سيفشل حتماً في لعب دوره الطبيعي كأب، في رفع سقف التحديات، في إيصاله كل صباح إلى المدرسة بلا خوف، وفي رسم مستقبله صمن رؤية واضحة ومستقرة. لم يتفهمه المحيط، لم تتقبل هي أن يكون شريكها إنهزامياً الى هذه الدرجة. في نظرها، إنجاب طفل، وفي هذه الظروف، أكبر إنجاز وأهم خطوة لعيش ما تبقى من حلاوة الحياة.
الأم الثالثة - بإيجاز وبساطة - تودّع إبناً، قرر الهجرة، ومن دون رجعة. غداً، ستكون المرة الأخيرة التي تراه فيها. ولا تعلم إذا كانت ستعاود رؤيته مرة أخرى... كيف لا وهجرته غير شرعية؟


* * *


إنها الثامنة أو التاسعة أو حتى العاشرة صباحاً، لا يهمّ. حياتنا نحن تستمر. سنستيقظ ونأكل ونعمل وندخّن وننام. حياتنا تستمر، فيما ليل أولئك الأمهات لم ينجلِ.


[email protected]
Twitter: @moussa_georges

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم