الثلاثاء - 23 نيسان 2024

إعلان

كيف يسدل مغتربون الستار على ذكريات شكّلتنا؟

المصدر: "النهار"
جلنار
كيف يسدل مغتربون الستار على ذكريات شكّلتنا؟
كيف يسدل مغتربون الستار على ذكريات شكّلتنا؟
A+ A-

أخيراً التقيت بمن أنصف العروبة أمام داء الغرب وامتحان سحره المثير، امرأة من نوع خاص، حين التقيتها كل ما كنت أتوقع سماعه تجربتها الغربيّة والمقارنات غير المتناهية التي اعتدنا سماعها من كل من تسنى لقدمه أن تطأ تراباً غير ترابـنا ولو لبضعة أيام، ترابًا ذراته فيها ما يكفي لصناعة المعجزات، وهواءً منسوجًا من أجود أنواع الفكر يغنّي الحرية بصوت أوبرالي. هكذا يوهمنا المغتربون اللاهثون وراء شبح النجاة، ولم يخطر ببالي أن يشغل مساحة حديثها شوقها العربي وعطشها غير المتوقع لعروبتها، تاركة على رف الحديث الغزل الغربي الرتيب المعتاد. عاشقة عادت إلى وطن ظُلم بوَسم ضرورة الفرار، وسوط الحنين كان جلادها.

لطالما تساءلت كيف يسدل بعض المغتربين الستار على ذكريات شكّلتنا هي نحن في زمن آخر، أنتخلى عن أنفسنا؟

بعض الحب يرتبط بالذكرى ويسكن صاحبه مهما ابتعد، حينها لا شيء يمكنه تحجيمه لأن الحمام الأبيض يسجي جسر السلام بداخلنا، الجسر بين الحنين والغربة، وهي كما تروي أعطت غربتها سنوات دراستها وعملها وبضع شعرات سرق سوادها العمر. لطالما كان التردد سيد رغبتها ومانعها من الاعتراف بحنينها المرهق كسِرّ ظلّ طي الكتمان حتى يجد من يفهمه، بينما من حولها يرقصون طرباً في الغربة، فلا شيء يشبهنا حين نبتعد عن انتمائنا، بعض القيود نختارها بفرح وربما بفخر أيضاً، كأن نمثل مكانًا وبيئة جئنا منها حتى لو اجتمعت ظروفها علينا ونبذتنا، هكذا يكون حبنا للوطن، أما أن نضيع بين ثقافة لا تشبه طفولتنا وحرية لا تشبه موانعنا، حينها تصبح الحياة إلى الأسر أقرب.

ولأن قسوة البعد عن الوطن وصعوبات التأقلم وغيرها من العوارض لم تصبني بعد، لم يخطر ببالي من قبل وأنا محاطة بكل ما هو عربي كم يكون صعباً أن ترغب بسرد نكتة ولا تجد شريكاً يفهمك، وأن تنتظر سيل الضحك ويقابلك الصمت، وأن تصلك رسالة وتكتم ضحكتك لأنك لن تستطيع أن تجيبهم إن سألوك عن السبب، لم أتصور يوماً أن تكون نكاتنا ومزاحنا موضع حنين ونحن الشعب المشهور بعقد الحاجب، نحن نضحك أحياناً لحاجتنا إلى الضحك بديلاً من الصراخ والاحتجاج، نتبارى من دون سبق إصرار مَن صوت ضحكته أعلى، نتبارى كم سيبقى رنين قهقهاتنا يعزف في آذاننا حتى نجتمع ثانية. أي ترجمة قادرة على نقل لغتنا ومعظم نكاتها مرتبطة بالمكان بشكل أو بآخر!

قالت: أريد مزاحاً بالعربي، أريد أن أضحك بالعربي. كم من الأشياء البسيطة في متناول فرحتنا ندركها حين تغيب عنا.

ذكرتني بصديق يشكو الوطن في كل لقاء، ويدّعي بأنه لم يكرّمه ولم يكن عادلاً معه فهجره وامتنع عن زيارته، رغم هذا العداء الجهري لم يكن شيء يعلو على ابتسامته والفرح يغطي ملامحه وحركاته وحتى كلماته، إن التقى بأي عربي صدفة في غربته.

شعرت وهي تأخذ أنفاسها ببطء أن ما تريده ليس أن تجد حباً يشاركها صعوبة أيامها وتفاصيلها وحسب، بل تريد أن يرافقها الوطن على هيئة رجل، فكانت تبحث عن حب، عن رجل بنكهة عربية، رجل يشد الأصفاد على رحلاتها المنتظمة لزيارة بلادها ويوثق رباطهما، بينما لا تزال تثير استغراب أقاربها وصديقاتها، فهي الجميلة المحاطة بقائمة من المعجبين... ولم ترتبط بعد.

تريده عربياً... في الغرب يجدون بلادنا قد تحولت إلى حقول للموت، وهي تعيش بينهم وما زالت تريده عربياً ناجيا من حقول الموت الجسدي أو النفسي الذي أصبح يتربّص بنا، عربيًا كلغتها وبشرتها وأمثال جدتها القديمة... تريده عربياً لأسباب خارجة عن الحب. قد لا يدرك الرجل أحياناً أن كل ما تبحث عنه المرأة هو شريك لنكاتها… شريك لضحكتها.

أجمل ما في الأمر أن عروبتنا ما زالت قادرة على إثارة دهشتنا ما حيينا وما ابتعدنا.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم