الثلاثاء - 16 نيسان 2024

إعلان

"السينما للجميع" تزهر مجدداً في "شارع الفيلم الأول"

"السينما للجميع" تزهر مجدداً في "شارع الفيلم الأول"
"السينما للجميع" تزهر مجدداً في "شارع الفيلم الأول"
A+ A-

تروي احدى العاملات في معهد لوميير ان بطاقات الافتتاح نفدت خلال ٤٨ ساعة من تاريخ طرحها في السوق، وإن لم يكن المهرجان قد أعلن بعد عن الفيلم الذي سيفتتح دورته الحالية (١٣ - ٢١ الجاري). فـ"السينما للجميع"، هي الفكرة التي حملتها تظاهرة لوميير للأفلام الكلاسيكية إلى ذروتها، خلال انطلاقتها مساء السبت الماضي في ليون (ثالث المدن الفرنسية حجماً)، بعدما استقطبت مليوناً ونصف مليون مُشاهد على مدار تسع سنوات من الانوجاد في المشهد الدولي، لتعود إلى أصل الحكاية وتذكّرنا ان السينما تخاطب الحشود.

كان حفلاً باهراً في قاعة توني غارنييه التي تتّسع لنحو ٦ آلاف مشاهد توجهوا اليها لحضور مراسم الدورة العاشرة التي استغرقت ما لا يقلّ عن ساعتين تبعها عرض "مسيرة طفل مدلل” لكلود لولوش الذي جاء إلى ليون مع بطل فيلمه جان بول بلموندو. ادخال هذا العدد من الناس إلى قاعة، يحتاج إلى تنظيم هائل وإلا تحوّل فوضى عارمة. وهو يوازي ادخال مسافري ليس أقل من ٢٥ طائرة إلى المركبة. وكما يقول جان جاك آنو، تأخذنا السينما إلى حيث لا تصل الطائرات.



عشرات المشاهير كانوا كذلك في المسرح الضخم. فلا أحد يقول "لا" لتييري فريمو، مدير معهد لوميير والمفوّض العام لمهرجان كانّ. يكفيه ان يرفع السمّاعة لإحضار أي كانّ. من الحضور: المخرج المكسيكي "المؤسكر" هذه السنة غييرمو دل تورو، الممثّل الإسباني خافيير باردم، الممثّلة النروجية الكبيرة ليف أولمان، الممثّلة الإيطالية مونيكّا بيللوتشي، المخرج الأميركي جيري شاتزبرغ، الممثّل الفرنسي فنسان لاندون، وغيرهم. أراد فريمو لهذه المناسبة ان تكون كبيرة واحتفالية: مرور عشر دورات على مغامرة آمن بها هو ورئيس معهد لوميير برتران تافرنييه. فخلال زيارته لبيروت، في أيلول الماضي، قال فريمو لـ”النهار” انه كان يتوقع هذا النجاح لمهرجان، وهذا ما سعى اليه، على رغم انه لم يكن متأكداً من انه قادر على تحقيقه. "منذ البداية، سمّيناه "مهرجان للجميع"، السينما عندي فنٌّ كوني، من السهل ان نبقى في ما بيننا ونؤسس لمهرجان خبراء…".

اذاً، بمظاهر البهجة والاحتفالية دُشِّن هذا الحدث الذي يستمر تسعة أيام. تسعة أيام من الانغماس في السينما الكلاسيكية. مونتاج للأفلام التي تنتظرنا في الصالات المظلمة الموزعة في أرجاء المدينة، جعل حماسة شديدة تدبّ فينا. بإيقاع جهنّمي، تعاقبت لقطات من أعمال شكّلت وعينا السينمائي (بعضها يُستعاد بنسخ مرممة) وأخرى تبقى رهن الاكتشاف. في حين دأب لوران جيرا على تقليد شخصيات سينمائية مرموقة، من مثل برتران تافرنييه وجوني هوليداي وجان لوك غودار، مغرقاً الصالة في الضحك. الا ان اللحظة الأهم تجلّت في الكشف عن مشروع "مدينة لوميير"، وهو امتداد ضخم للمعهد؛ مدينة مهداة إلى ذاكرة السينما والابتكارات الهندسية. يقول الناقد سيرج كاغانسكي ان تقديم المشروع في مثل هذه الأمسية كان الهدف منه الضغط على الفاعليات السياسية ومندوبي المؤسسات الذين حضروا الحفل كي يشاركوا مادياً فيه، وان المشروع في حال تحققه يوماً سيكون هائلاً. هذا المشروع ليس الوحيد، فهناك أيضاً “معهد ماكس ليندر” (مخصص للممثّل الكوميدي الشهير) سيبصر النور في السنوات القادمة تحت اشراف معهد لوميير.

حضور بلموندو في المقابل تكفّل الجانب العاطفي للسهرة. لا يوجد أحد لم يشاهد فيلماً له على الأقل. الممثّل الثمانيني ضعيف الصحّة، يتنقّل بعصا. هذا لم يعد سراً! لكنه استعاد بعضاً من عافيته وبدا أفضل حالاً ممّا كان عليه قبل سنتين في البندقية، يوم تسلّم "الأسد الذهب" عن مجمل أعماله. وبلموندو هو ٥٠ عاماً من الأفلام، ٢٠٠ مليون مُشاهد. عمل مع أكبر الكبار: رينه، غودار، ملفيل، فرنوي، رابنو، الخ. يختزل فكرة كاملة عن السينما في سبعينات القرن الماضي وثمانيناته. مع أنه، في بداياته، قيل له: "لن تكون ممثلاً. هل تتخيل فتاة بين يديك وأنتَ بهذا الشكل؟". هناك شيء يسحق القلب في رؤية الرجل الذي كان يقفز من الهليكوبتر ويقوم بالمشاهد الخطرة بنفسه، والآن بالكاد يستطيع المشي. مع ذلك، لا يثير الشفقة. كلّ شيء راح وبقيت الابتسامة العريضة. تلك الابتسامة التي تبدو كأنها لغته الوحيدة لمخاطبة الناس الذين التفّوا من حوله.

على صعيد البرمجة الغنيّة جداً، يتيح لوميير تصفّح تاريخ السينما لاكتشاف (أو اعادة اكتشاف) سينمائيين لم تصل اليهم كامل حقوقهم المعنوية. هذه السنة، تتجّه الأنظار إلى المخرج الفرنسي هنري دوكوان الذي نشط بين ١٩٣٠ و١٩٦٠ واقتبس كثيراً من جورج سيمنون وأعطى أدواراً مهمّة لجان غابان ودانيال داريو. الأميركي ريتشارد تورب، أحد أرباب هوليوود في الفترة من ١٩٢٣ إلى ١٩٦٧، هو الآخر تُعرض له سبعة أفلام في إطار "لحظات هوليوودية: ريتشارد تورب". تورب السينمائي الذي أدخل بصمات شخصية إلى إنتاجات ضخمة وتحدى القوالب الجاهزة السائدة في تلك الفترة من دون ان يتخلى عن المشهدية الهوليوودية. دائماً في اطار الاستعادات لسينمائيين سقطوا في النسيان، تأتي المخرجة البريطانية مورييل بوكس في سبعة أفلام. بوكس المعروفة ككاتبة سيناريو في الأساس، نشطت في الخمسينات، في الفترة التي كان يسيطر عليها السينمائيون الرجال، ولطالما تطرقت إلى الحرب الجندرية، لكنها لم تفتقر يوماً للدعابة.

معهد لوميير، الواقع في الحيّ الذي سُمّي بـ"شارع الفيلم الأول" حيث صوَّر الأخوان لوميير، على إيقاع عشرين صورة في الثانية، أول فيلم في التاريخ، كان غداة الافتتاح مكتظاً بالسينيفيليين من الأعمار كافة. في هذا المكان الذي ارتدى لباس "ضهرة" يوم أحد، صالات سينما بأحدث التقنيات ومقهى يصدح فيه صوت مطربة ومطعم يقدّم وجبات من المطبخ الليوني ومكتبة تحتوي على أحدث الاصدارات من كتب السينما. انه القلب النابض لكلّ مشروع لوميير، محاصر بجدار يحمل تواقيع سينمائيين مرّوا من هنا وتركوا تواقيعهم عليه، من وانغ كار واي إلى يسري نصرالله.

في اليوم ما قبل الأخير للمهرجان، يُعاد تمثيل فيلم "الخروج من مصنع لوميير"، تقليد يُقام كلّ سنة في المكان الذي صُوِّر فيه عام ١٨٩٥، وسبق ان شارك فيه سكورسيزي ودونوڤ وألمودوفار وتارانتينو وغيرهم. هذه السنة، مخرجة الريميك هي الممثّلة الأميركية جاين فوندا، ٧٩ عاماً، التي يكرّمها المهرجان بجائزة "لوميير ٢٠١٨" (جائزة سبق ان أُسنِدت إلى أمثال سكورسيزي وإيستوود وفورمان ودوبارديو)، ويمكن لزائر المدينة ان يرى صورها موزعة في الأماكن العامة. فوندا ستشارك في نشاطات منها درسٌ سينمائي، قبل ان تحضر حفل الختام بفيلم "عناقيد الغضب" لجون فورد (عرض عالمي أول للنسخة المرممة) من تمثيل والدها هنري فوندا.

صالة "أوديون" هي مسرح لندوات عدة مع ضيوف المهرجان: ليف أولمان تحدثت الأحد الماضي بشراهة وعفوية وحبّ عن تجربتها الاستثنائية مع المخرج الأسوجي المعلّم إنغمار برغمان التي امتدت لسنوات وأثمرت تسعة أفلام. شارك في الندوة المخرج الإيراني أصغر فرهادي وخافيير باردم الذي اضطلع ببطولة فيلمه الأخير، "الكلّ يعلم". قام باردم بمداخلة سائلاً اذا كانت أولمان قد قالت بأن "الكاميرا كلّما اقتربت من وجهها، عليها انتزاع القناع الذي يغطيه"، فما كان منها الا ان عددت سلسلة مشاهد برع فيها باردم وظلت في ذاكرتها على رغم سنواتها الثمانين. في اليوم التالي، أعلن خافيير باردم بدوره في ندوة استمرت ساعتين انه لا يؤمن بالله ولكن يؤمن بآل باتيشنو! حكى عن مسيرته التي تنطوي على منعطفين: الأول هو الذي سلكه عندما التقى بيغاس لونا في العلم ١٩٩٢ ومثّل في “خامبون، خامبون!”، والثاني يوم تعرف على جوليان شنايبل: “شنايبل سمح لي ان أجد صوتاً بالانكليزية. فهو قرر ان يسند لي الدور الرئيسي ٢٠ يوماً قبل بداية تصوير الفيلم. كان لديّ ٢٠ يوماً، كي أتعلّم الإنكليزي، وأخسر ١٥ كيلوغراماً، وأتظاهر بأنه لي لكنة كوبية”.

أمس، كنّا على موعد مع المخرج المكسيكي ألفونسو كوارون الذي قدّم أخيراً في مهرجان فينيسيا أحدث أعماله، "روما"، وهو كان أحد الحاضرين العام الماضي في ليون في ندوة صديقه غييرمو دل تورو. وفي الأيام المقبلة، سنلتقي المخرجة الفرنسية كلير دوني التي عرضت أخيراً "هاي لايف” في تورونتو، واحدى الشخصيات البارزة في عالم السينيفيلية: الأميركي بيتر بوغدانوفيتش. الأخير سيقدّم فيلم صديقه الراحل أورسون ولز، "الجانب الآخر للرياح"، ويعرض فيلماً وثائقياً أنجزه عن باستر كيتون.



صالات ضخمة أخرى تحتضن آلافاً من المشاهدين، منها "أوديتوريوم ليون" حيث عرضت مساء أمس النسخة المرممة بالسبعين ملم الأصلية لـ”٢٠٠١: أوديسّا الفضاء" لستانلي كوبريك بعد عرضه في مهرجان كانّ أيار الماضي. وشارك في العرض مصمم المؤثرات البصرية دوغلاس ترامبل. عرض آخر يثير الحماسة في ليون: "البحث عن الذهب"، تحفة تشارلي شابلن. عرض ترافقه أوركسترا ليون الوطنية.

بعد الكشف عن جديده، "كتاب الصورة"، في كانّ، ثمة مكان لجان لوك غودار في ليون حيث سيُعرض بعض من أفلامه. ولا نعلم حتى الساعة اذا كان سيحضر إلى مدينة الأخوين لوميير أو لا. مع العلم ان المهرجان متورط في حبّه، اذ تم الاعلان عن "مشروع غودار" الذي يقتصر على عرض مجمل أعمال "إله السينما" على شاشة معهد لوميير.



انه مبدأ "السينما للجميع" الذي تأسس عليه الفنّ السابع، وها يزهر مجدداً في "شارع الفيلم الأول". نوع من "أنتي كانّ" يثيرغرابة ليف أولمان الذي التقتها "النهار" أمس (تُنشر المقابلة الخاصة قريباً) وأعربت عن استغرابها بالقول: "هذا مهرجان للاقتراب من الجمهور، ونحن في دورنا جمهورٌ، وما يجمعنا هو عشق السينما. ومَن لا يحبّ السينما لا يمكنه ان يكون جزءاً من هذا المهرجان. بالنسبة لي، هذه واحدة من المفاجآت التي لم تخطر في بالي حتى قبل بضعة أيام. واقفتُ على المجيء إلى هنا من أجل تييري (فريمو) بعدما قابلته في كانّ قبل سنوات، الخ. ولكن ها انني أكتشفُ سحراً وجمالاً”.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم