الخميس - 18 نيسان 2024

إعلان

ريتا تصرخ وجعاً من قعر الجحيم: "ما بقدر طعمي ولادي"

هالة حمصي
هالة حمصي
ريتا تصرخ وجعاً من قعر الجحيم:  "ما بقدر طعمي ولادي"
ريتا تصرخ وجعاً من قعر الجحيم: "ما بقدر طعمي ولادي"
A+ A-

الوضع "مأسوي جدا". هكذا تصفه. دموع أم، صرخة ريتا المكسورة، الخائبة، المجروحة، المقهورة، الخائفة على عائلتها الصغيرة، صرخة على امتداد لبنان، على وسع العالم. منذ أن خسرت وزوجها عملهما، او أجبرا على خسارته قبل أشهر عدة، تحوّلت حياة هذه العائلة الصغيرة عذاباً مريراً، صراعاً يومياً من أجل الصمود. "من الآخر، ما بقدر طعمي ولادي... وبوصل لوقت ما بقدر أعمل لقمة أكل للولاد".

قلب ريتا يدمي حزناً وقهراً. انه النزول الى الجحيم. "أنا تحت الأرض"، تقول بحرقة. طعم الحضيض المرّ في فمها. هذا هو الوضع حاليا. فمن بعد معاش شهري يبلغ نحو مليونين و300 الف ليرة لريتا، ونحو 900 دولار لزوجها، تدهورت الأمور الى "اللاشيء"، مع ولدين، وتكاليف مدرسة وفواتير كهرباء و"مولد" وهاتف وايجار منزل وطعام وحاجات عائلة ومتطلبات حياة.

يرتجف صوت ريتا كلما نكأت الكلمات جراحها، كلما تذكرت. منذ ان طُرِدت من وظيفتها تعسفاً، امكنها ان "تتلطى" بعمل بدوام نصفي. "لكنهم يطلبون مني احيانا شغلا اضافيا في ساعات أكثر من نصف الدوام"، مع معاش لا يتجاوز 400 دولار شهريا. "اقول لنفسي هذا هو الموجود". وتغضّ الطرف، مضطرة الى ان تقبل الواقع الصعب. "اقول اسكت، لانهم يقولون ان الشركة تعاني ماليا، وانه اذا اقفلت، فسأجد نفسي من دون اي عمل".

تتحمل ريتا من أجل ولديها، من اجل عائلتها. الوجع يدفعها الى ان تواصل بشجاعة البحث عن عمل أفضل. خبرتها المهنية طويلة، و"تنال الاعجاب". لكن ما يلعب ضدها هو العمر. "عندما يعرفون انني ابلغ 54 عاما، لا يعودون يريدون توظيفي". كفّ قوي تُصفَع به هذه الأم العاملة منذ صباها، كلما تلقت جوابا رافضا لتوظيفها.

والكف أقوى عندما يحين وقت دفع الفواتير وتلبية حاجات العائلة، خصوصا الولدين. "يتوجب عليّ دفع كمبيالة بقيمة 700 الف ليرة للمصرف شهريا. وهناك ايجار المنزل، ويبلغ 450 دولاراً شهريا"، اي اكثر من المعاش الذي تتقاضاه من عملها بدوام نصفي. "نعم، اكثر من معاشي". وبإضافة "فواتير الكهرباء والمولد والهاتف الخليوي والدش والانترنت..."، نصل الى "نحو 550 دولارا بسهولة".

مبالغ مقلقة، و"كرمالنا لورا"، على ما تتدارك ريتا. حتى زوجها الذي عمد الى استئجار "نمرة عمومية" ليسترزق، و"اذا وجد معاملة فيتولاها"، يجد نفسه امام ضائقة كبيرة. "شو بدو يطلّع تيطلّع تنقدر نعيش". وتختنق الكلمات في صدرها: "من الآخر، ما بقدر طعمي ولادي. هاي الكلمة المزبوطة. بوصل لوقت ما بقدر اعمل لقمة أكل للولاد. ما بقدر لفّ تارتين ع المدرسة".

تخونها الدموع، وتندفع منها الكلمات بلا هوادة. "تقولين انه ليست هناك مؤسسات؟ نعم، هناك مؤسسات. وإحداها ساعدتني في ادخال ولديَّ الى المدرسة". من مدرسة خاصة "غالية"، انتقلا الى مدرسة "نصف مجانية" امكن احد الولدين التكيف جيدا فيها، بينما يعاني الآخر، لعدم توافر الامكانات التربوية المتخصصة لحالته. "وكل يوم، اتلقى اتصالا بشأنه...".

حجم المعاناة هائل. وتتذكر على غفلة جزءا من المصيبة. "المؤسسة التي طردتني تدين لي بالمال. ما اطلبه هو ان ينصفني القضاء، "تما يقدرو يبرطلو ويغطّو تحتى يحجزولي المصاري". "يتوجب عليهم 14 مليون ليرة معاشات على الاقل، من دون ان نضيف تعويض الطرد التعسفي واي شيء آخر". 20 عاما امضتها في تلك المؤسسة. وكانت نهايتها مزرية، مخيبة، "والمؤسسة عم تبرطل تتمنع انو احصل على معاشاتي المحقة".

حتى الأمل في التغيير اختلسوه منها. هذا ما تشعر به ريتا. "اذا حصلت على اموالي، يمكنني ان افكر في انشاء دكانة صغيرة لاسترزق منها، من اجل ولدي". يتشبث بها الالم، ولا يدعها قبل ان تصرخ باكية. "كنت اتكل على ان يكون لي تعويض مالي عندما ابلغ سن التقاعد". "وين صرت اليوم؟ تحت الارض. بقلك انو اليوم ما قدرت عملت عروس لولادي. رحت اشتريت كعكة سمسم وعطيتن ياها. كيف هاي؟ هلق هلق بتجي، انا مش طابخة. بدو يجي طفلين من المدرسة. شو بعمل؟".

لا تستسلم ريتا، رغم يأسها. قدمت شكوى الى وزارة العمل بشأن معاشاتها المحجوزة وطردها التعسفي. "المسؤولون في المؤسسة سخروا مني، لانني قدمت شكواي وهم محميون. لتساعدني الدولة لاطعم ولدي، على الاقل". دقت ابوابا كثيرة، و"حكيت مع كل المسؤولين". لكن ما حصلت عليه هو "تضامن كلامي، ولكن ع الارض ما في شي".

مجروحة كثيرا هي، "مقهورة وأعاني من هذا الوضع". حتى في الانتخابات النيابية الاخيرة، صوتت لمرشح "مستقل". وعندما نجح، "اتصلت به مرارا، لكنه لم يرد على اتصالاتي". "ما حدا ردّ. هوبرة لبرا، وع السكت ما في شي".

جبل من الخيبات المتراكمة، الصفعة تلو الاخرى. وتنتفض ريتا من شدة الالم عندما تتذكر ان "صاحب المبنى يهددنا بالطرد، لاننا لا نستطيع دفع الايجار". "مكسور علينا 3 اشهر، وفتنا بالرابع". ماذا عن الكهرباء؟ "مكسورة كمان. صاحب الموتور كل ما بيدق الباب، منقلّو طوّل بالك علينا. وما بعرف أيَّ نهار بيقطع الكهربا".

أكثر ما تخشاه ريتا هو ان يتكرر سيناريو العذاب نفسه وتشتد البهدلة. "تركنا بيتنا السابق، لاننا عجزنا عن دفع الايجار. كذلك، قطعت شركة الكهرباء التيار عنا هناك، لاننا لم نستطع دفع الفواتير"... و"أكل ما في". في ظل هذا الانهيار المتواصل، يبقى قلب الأم على ولديها الصغيرين. "الوضع يؤثر كثيرا فيهما، لان الامور اختلفت عن الايام التي كان لدينا فيها مال. نفسيتهما تأثرت، ويلومانني، لانني لا استطيع ان اشتغل لتلبية حاجات العائلة، في وقت يغيب زوجي كل النهار ويعود في ساعة متأخرة من الليل، وليس معه سوى 15 او 20 الف ليرة فقط". "وين بدو يروح يشتغل؟ وكيف بدنا نعيش؟".

من قعر الحطام الذي تجبر ريتا على عيشه مع عائلتها، ترفع الصوت. واذا نهضت كل يوم الى القتال، فذلك من اجل ولديها. "اقول ان لدي ولدين، طفلين. يجب ان اقوم بالمستحيل من اجلهما". "هيدا بس". تفرح عندما تتكلم على نجاحهما في المدرسة، و"علاماتهما ممتازة". ويبقى املها "ان يأتي يوم واستطيع ان اغادر هذه البلاد، لاجد حياة اخرى في الخارج".

في الانتظار، لن تخاف من ان تصرخ. وصرختها اليوم على وسع الدنيا، "ربما تغيّر شيء ما".

[email protected]   

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم