الثلاثاء - 23 نيسان 2024

إعلان

"المشتية"... رعاة الزمن الغارب الهاربون من الثلج إلى دفء الجنوب

المصدر: "النهار"
ابراهيم بيرم
ابراهيم بيرم
"المشتية"... رعاة الزمن الغارب الهاربون من الثلج إلى دفء الجنوب
"المشتية"... رعاة الزمن الغارب الهاربون من الثلج إلى دفء الجنوب
A+ A-

"المشتية" تعبير اصطلح أهالي الجنوب الساحلي إطلاقه على رعاة الماعز الذين اعتادوا النزوح مع قطعانهم في منتصف كل خريف من مناطق الجبل والبقاع الى الجنوب الساحلي هرباً من موجات الصقيع والثلوج الى مناخات الدفء والشتاء المعتدل وبحثاً أيضاً عن المرعى لقطعانهم.

رحلة هؤلاء الشاقة نحو الأمان بدأت عادة كما يذكر المعمرون منذ أكثر من قرنين، ولكنها تضاءلت وتراجعت في العقود الأربعة الماضية حتى أوشكت ان تتلاشى وتضمحل تاركة ورءاها ذكريات وصدى سنين خوالي ومرحلة تولت ونمط عيش انصرم، واستطراداً حكايا عهود مضت وفي طواياها قصص جهاد ومشقة وكفاح إنسان كتب عليه أن يكدح ليواجه غضب الطبيعة بحثاً عن لقمة عيش.

أهالي الساحل الجنوبي كانوا مستعدين لاستقبال قوافل النازحين من صوب الجرود والجبال فبنوا لهم الزرائب الطينية لتأوي القطعان الوافدة وتسمى بلغة أهل هاتيك البلاد "المشاتي"، والبدل الذي يتعين على الوافد دفعه عيني أي "سواد" الماعز (الروث) لصاحب الزريبة إما ليبيعه وإما يسمد فيها أرضه وكرومه مضافاً الى ذلك بعض إنتاج الماعز من حليب ولبن "ولبا" أي الحليب الجامد البالغ الدسامة الذي تدره الماعز في الايام الثلاثة التي تلي ولادة الجداء.

وعلى تكرار السنين ومع توالي الشتويات الطويلة الصقيعية وحول "كوانين" الجمر، فاكهة الشتاء. ومع لقمة العيش والملح بين الضيوف والمضيفين نشأت بطبيعة الحال بين الطرفين وحدة حال "تحلّيها" حكايا متبادلة كان دوماً ابطالها الرعاة الوافدين اذ تحفل ذاكرتهم بقصص مثيرة وجاذبة تقارب أحياناً حد الأساطير يقصها هؤلاء الرعاة بحماسة وبشيء من التجسيد والتمثيل عن مواطنهم القصية وعن مغامراتهم في تلك الجرود الوعرة وهم يدرؤون عن قطعانهم السارحة هجمات وحوش الفلا من ذائاب وضباع وسلاحهم زنود عامرة وعصي غليظة واستبسالهم للحفاظ على مصدر عيشهم الحصري وعيش ابنائهم المنتظرين في البيوت المتواضعة.

والمفارق ان فلاحي الجنوب المضيفين كانوا دوماً يقابلون تلك الحكايا وما تنطوي عليه من عنتريات بابتسامة شك عريضة لايمانهم بحجم المبالغات، لا سيما وهم يسمعون انباء معارك الرعاة وجولات النزال مع الضواري الفاغرة افواهها جوعاً وقرماً. لذا كانوا يبادرون الى قطع استرسال الراعي في روايته ويتمنون عليه بسلاسة "تلطيف الجو" بإطلاق بعض المواويل الشروقي والأوف التي يجيدونها او العزف على المنجيرة والمجوز والمزمار.

وغالباً ما كان هؤلاء الفلاحون ينتظرون بعضهم في صباحات اليوم التالي ليدلوا بآرائهم في ما سمعوه من قصص الرعاة والتشخيص الذي يبررون فيه واقع الحال: "انهم (اي الرعاة) ضيوفنا وواجبنا اكرامهم وتحمل شطحاتهم ما دامت غير مؤذية وللتسلية وتزجية الوقت"، لا سيما ان بعض الرعاة دأبوا على ترديد الحكاية نفسها وان بصيغ متناقضة ومتضاربة احياناً.

ورغم مرور السنين فإن اهالي الساحل الجنوبي وخصوصاً الممتد من ساحل صور وصولاً الى شاطىء الناقورة مرورا ببلدات الشعب العالية نسبياً ما زالوا لحد اليوم يتداولون احدى روايات الرعاة كنادرة معبرة ومفادها ان راعيا كان عنده كلب حراسة للقطيع رباه مذ كان جرواً، وذات يوم تصدى هذا الكلب لذئب شرس هاجم القطيع باحثا عن رزقه لكن الذئب تغلب عليه وادماه فالتجأ الكلب الى جرن بئر يداوي جراحه النازفة بكثرة وتركه الراعي يائساً من امكان شفائه منتظرا ان ينفق بين ساعة واخرى نظرا لسوء وضعه. وفي صبيحة اليوم التالي قصد الراعي والقطيع البئر اياها ليطمئن الى مصير الكلب فلم يجده فزاد ظنه بأن رفيق العمر قد ارتحل فاكتنفه الغم والاسى حزناً. وبعد ثلاثة ايام فوجىء الراعي بالكلب عائداً وبصحبته كلب شبيه به تماماً فعلم انه شقيقه وقد ذهب الى موطنه الاصلي ليستنجد به ويستنصره على العدو الفتاك. ثم ذهب الكلبان معا نحو جحر الذئب وخاضا معه مواجهة ضارية استمرت اكثر من ساعة ضده انتهت بالثأر من الذئب وقتله.

لاحقا صارت الحكاية الغريبة مثلاً عن "الوفاء والاخوة" والاخذ بالثار الموجودة حتى بين الكلاب وصارت عبرة يتذكرها ابناء المنطقة الى اليوم ساعة يريدون ممازحة شخص مثار الاعصاب فيقولون له: ماذا أنت فاعل هل ستأتينا بشقيقك؟ وينتهي الموقف المتشنج بضحكات عالية تضفي المرح وتبدد الاحتقان.

 قوافل الرعاة الوافدين الى الساحل الجنوبي بدأت تخف عاماً بعد عام بعد اشتعال الحرب الاهلية الى ان اوشكت على التلاشي لاسيما وان حرفة الرعي تقلصت الى حدالانقراض. ولكنك اذا مررت في قرية الشعيتية والسماعية في قضاء صور سترصد في خراجهما بقايا تلك "المشاتي" الطينية الواطئة وقد نبت االعشب على جدرانها المهدمة تحكي أسرار زمن تولى الى غير رجعة. ومن يقترب منها اكثر ربما لو ارهف السمع سيسمع اصداء مواويل جريحة كان أطلقها هؤلاء الرعاة ذات ليلة ليسلوا انفسهم او ليخلدوا حضورهم قبل ان يمضوا الى عالم آخر بلا رجعة.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم