الثلاثاء - 16 نيسان 2024

إعلان

هذه هي بعضُ أسبابي لأكون سعيداً في لبنان

عقل العويط
عقل العويط
هذه هي بعضُ أسبابي لأكون سعيداً في لبنان
هذه هي بعضُ أسبابي لأكون سعيداً في لبنان
A+ A-

كتبتُ أمس مقالاً بيّنتُ فيه الأسباب التي تمنع المرء من أن يكون سعيداً في لبنان.

اليوم، أكتب هذا المقال المضادّ، لا متراجعاً عن مقال يوم أمس، إنما مستكملاً إيّاه، لأكون منسجماً مع ذاتي، الانسجام كلّه لا بعضه.

وعليه، تجدون، طيّه، جملةً من الأسباب التي من شأنها أن تجعلني سعيداً في لبنان، على رغم تضافر الأسباب الموضوعية التي تمنع هذه السعادة.

يمكنني أن أكون سعيداً، لأنّي لا أزال أعثر في لبنان على الخير. على الصداقة. على الوفاء. على الإخلاص. على الألفة. على الرفض. على التمرّد. على الثورة. على الحبّ. على الفجر. على منتصف الليل. على الندى. على الغيم. وعلى الجبل الحرّ الأغرّ الأعزل، والمدى المفتوح على اللانهاية.

أقول ذلك، عارفاً أن المعركة في لبنان غير متكافئة بين طرفَين؛ طرف الجمال الأبيّ في خضمّ البشاعة شبه المطلقة، طرف الفرد المُواطن المجهول في الغابة الجاهلية المشهودة التي تغصّ بالقطعان البشرية، بأهل الغرائز، بجماهير الطوائف والمذاهب، بالقتلة، بالوحوش، وبسارقي الأمل من عيون الأطفال.



فأنا أعثر على هذا الجمال، وعلى هذا الفرد المُواطن، في الحلم، في الخيال، لكنْ أيضاً على الأرض، في وردةٍ برّيةٍ عصيّةٍ على كلّ يدٍ همجيّة، في المبنى نفسه حيث أقيم، في الشارع، على الشرفة المقابلة، في المقهى، في الحياة العادية، في السيّارة التي يمتثل صاحبها للإشارة الحمراء، في المؤسسة، في الناس الذين يحترمون القانون، في الولد الذي يغضب لأن أباه رمى قشرة موزٍ من شبّاكِ سيّارته، في النساء المناضلات اللواتي يرفضن الخنوع للذكورية المستحكمة، في الفتى الجامعيّ العصاميّ، في الفتاة الحرّة التي تمشي أبيّةً كريمةً مرفوعة الرأس في مجتمعٍ مليء بالمتحرّشين، في الأمّ الصابرة، في الأب المكافح، في الشبيبة التي تكافح المخدّرات، في القوى الجنينية، المتململة، التغييرية، الخلاّقة، الناشئة، في الجمعيات التي يعمل أعضاؤها مجاناً، لإدخال السعادة والعزاء إلى حياة الناس، مانحين عقولهم وقلوبهم وذواتهم، في احتفال العطاء الكامل، وفي مغامرة الحبّ مطلقاً.

يمكنني أن أواصل السرد المضادّ، سرد الأسباب الموجبة للسعادة، مؤكداً في الآن نفسه وعلى الدوام، أن المعركة غير متكافئة، وهي ستظلّ غير متكافئة، لكنها معركة لا بدّ منها، لأنها حياةٌ أو موت. ويجب "اختراع" السبب الموجب إذا لم يكن موجوداً. ويجب "اختراع" الناس الذين يخوضون المعركة من أجل هذا السبب، من أجل السبب المقيم على ضفّة الأمل والخير والقانون والكرامة والشرف والحرية.

يخطفني إليه في هذه اللحظة بالذات، و"يسعدني"، مشهدٌ محضُ افتراضيٍّ بالكامل: مجلسٌ للنوّاب يُقِرّ مشروع قانون العلمنة المدنية للدولة، والمساواة القانونية (والموضوعية) الكاملة بين المرأة والرجل. على هدي هذا القانون الافتراضيّ، تُجرى انتخاباتٌ جديدة للنوّاب وفق سياقٍ ديموقراطيّ غير مفخّخ، ويُنتخَب رئيسٌ جديدٌ للبلاد، وتتألف حكومةٌ تكون وليدةَ هذا القانون بالذات.

وإذا كان من الصعب (حالياً) إقرار مثل هذا القانون العلماني المدني المشار إليه، في ضوء موازين القوى التي تسرق سعادتنا، فإن مهمّتنا هي هذه بالذات: أن نعيد إنتاج ميزانٍ للقوى "يحرّر" سعادتنا المسروقة، ويستعيد أخلاقياتنا السياسية، ويعيد صناعة نوّابنا ورئيسنا ومجلس وزرائنا، ونعيد به صناعة المكان، كلّ مكان، وصناعة أهله، بما يحقّق أعجوبة السعادة.

أن نعيد صناعة أنفسنا في المكان، وإنْ متخيّلاً.

إنها لمهمّةٌ شاقّة. بل ربما مستحيلة. لكنها سببٌ كافٍ للمغامرة.

مبنى يرمّمه "جنودٌ مجهولون"، في شارعٍ فقيرٍ مهمل، في مدينةٍ منسيّة، شهقةُ وردةٍ فوق الركام، صخرةٌ أبيّة، صهيلُ نهرٍ، حكايةُ صفصافةٍ عاشقة، فنجان قهوةٍ في مقهى، على مقربةٍ من زجاجٍ مبلّل، ضحكة طفلٍ، ضحكةُ طفلٍ واحدة، نزاهةٌ نادرةٌ لموظّفٍ نادر، أستاذٌ جامعيّ ينادي بعبقرية الإنسانيات وبالأخلاقيات، مقالٌ حرٌّ لكاتبٍ حرّ، قاضٍ يحكم بالحقّ، حركةٌ ترفض المحارق، سيّدةٌ تنادي بكشف مصير المفقودين والمخفيين قسراً، زواجٌ مدنيّ في "المنطقة الحرّة" من المرفأ والمطار، صرخةُ حرّيةٍ في سماء لبنان المهيضة؛ هذه بعض أسبابي لأكون سعيداً في لبنان. وثمة أسبابٌ غفيرةٌ أخرى بالتأكيد!

ترى، ألا تكفي قصيدةٌ واحدةٌ لشاعرٍ واحد، أو غيمةٌ شبِقةٌ على ثيابِ امرأةٍ عابرةٍ، أو امرأةٌ حرّة، أو ضحكةُ رجلٍ طفلٍ في عينَي كلبٍ من نوع "أكيتا"، ألا تكفي لاجتراح السعادة؟!







حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم