الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

قضية النازحين السوريين: تحويل الأزمة فرصة... مقاربة جديدة!

A+ A-


كثيرة هي الدراسات والمقالات التي تتناول ملف اللاجئين في لبنان، بعضها موضوعي يتصف بالمهنية ويستند إلى معايير علمية، وبعضها الآخر ينطلق من خلفيات سياسية عنصرية تجاه هذه الفئة التي تعاني المآسي الاجتماعية والتربوية.

إن الأزمة السورية تعتبر من أكبر التحديات الإنسانية والسياسية والتنموية، ولا سيما أنها أدت إلى سقوط نحو نصف مليون قتيل وتهجير ملايين المواطنين داخل سوريا، ونحو ستة ملايين سوري إلى البلدان المجاورة. والمعاناة، مع الأسف، مستمرة، وقد تتفاقم مع اندلاع معارك إدلب.

لقد كان لبنان في مقدمة البلدان التي تصدّت لهذه الأزمة الإنسانية، وعلى رغم صغر حجمه وعدد سكانه الذي لا يتجاوز الأربعة ملايين نسمة، اعتمد لبنان في المرحلة الأولى سياسة الأبواب المفتوحة لإيواء اللاجئين، لكن الإنقسام السياسي الداخلي سرعان ما أثّر في طريقة إدارة هذا الملف برمّته، وانعكس ضعف المؤسسات الدستورية اللبنانية وغياب الرؤى الطويلة المدى والسياسات الناجعة لتحديات بهذا الحجم، على القضية بكل نواحيها الإنسانية والاجتماعية والتربوية والصحية.

إن عدم إقدام الدولة على تنظيم الوجود السوري من اللاجئين في إطار مخيمات منظمة ومنضبطة بسبب العقدة التاريخية القديمة عند البعض من تجربة المخيمات الفلسطينية، بعثر إمكان إعداد سياسات شاملة تصبّ في خدمة لبنان واللاجئين على حدٍّ سواء. على الرغم من الإقرار الدولي المستجد، فإن مسألة إقامة المخيمات ليست الحل الأفضل، وقد تجاوزتها أُطر التفكير في الحلول المثلى للاجئين والبلد المضيف. لكن لا بد من الإشارة إلى أن اللاجئين السوريين ينتشرون في أكثر المناطق اللبنانية فقراً وحرماناً، ما يضاعف الضغوط على البنى التحتية والخدمات العامة.

إنّ تلكؤ الدولة عن رسم السياسات المطلوبة، والانتشار الأُفقي والعمودي للاجئين في المناطق اللبنانية غير النامية، دفعا المجتمع الأهلي الى تحمّل مسؤوليته في هذا الإطار، ولا سيما أن نسبة الأطفال من اللاجئين تصل إلى نحو 54 في المئة. حتى كتابة هذه السطور، يقبع أكثر من 300 ألف طفل خارج المدارس، ما يعني مؤشرات في غاية السلبية لمستقبل سوريا والمنطقة، على الرغم من الدعم الدولي وجهود الحكومة ووزارة التربية والتعليم العالي (Race1&2).

استجابة لكل هذه التحديات، انشأنا مؤسسة "كياني" عام 2013 وكان الهدف تحديداً تعليم أكثر الأطفال بؤساً في المخيمات العشوائية التي تعيش ظروفاً مأسويةً، وخصوصاً أن التعليم هو حق من حقوق الطفل الإنسانية الأساسية، ووفّرت شراكتنا مع الجامعة الأميركية في بيروت ابتكارها لوحدات "غطا" التي قمنا ببنائها حيث اتضح أن هذا النموذج الذكي من البناء استطاع ان يؤمّن مظلة تربوية للاطفال السوريين والتدخل التعليمي المباشر لإخراجهم من حالة البؤس التي يعيشونها، ويساهم في تنمية المجتمعات المحيطة بعد إعتماد سياسة تشجيع مؤسسات المجتمع المحلي وأفراده.

تقدّم مدارس "كياني" التعليم للأطفال من عمر خمس سنوات إلى ست عشرة سنة، وبلغ عددها سبع مدارس تستوعب تقريباً 3500 طفل يتلقون التعليم من نحو 150 معلماً وعشرات الإداريين والموظفين، وهم من اللاجئين السوريين الذين يملكون طاقات وكفايات بارزة، ومن المجتمع المحلي اللبناني، وتطبق مناهج التعليم الرسمي اللبناني بالإضافة إلى تقديم الدعم النفسي وتعزيز التعليم المهني للشابات.

إن الشراكة مع الجامعة الأميركية في بيروت قد ولّدت الكثير من المزايا، في طليعتها المشاركة التي تأمّنت من الأساتذة والطلاب بمواكبة عمل "كياني" في مدرستين من المدارس السبع، وتطبيق برامج التعليم والدعم من مجتمعات اللاجئين والمجتمعات المضيفة.

إن مبدأ تشارك الأعباء كأحد وجوه الحوكمة الرشيدة الذي انطلقت منه "كياني"، سرعان ما توسع من اجل تطبيق شراكات فاعلة مع الجهات الرسمية، كوزارتي الشؤون الاجتماعية والتربية والبلديات التي تستضيف أعداداً كبيرة من اللاجئين في البقاع، بالإضافة إلى تعاونٍ متوازٍ مع وكالات الأمم المتحدة مثل الأونيسكو ومنظمات دولية غير حكومية وجمعيات القطاع الخاص وهيئات المجتمع الأهلي.

على عكس ما قد يظن البعض، فإن وجود اللاجئين الموقت في إنتظار عودتهم إلى بلادهم، قد يشكل فرصة إقتصادية ومؤسساتية مهمة للبلد المضيف، إذ ان الأموال الدولية المخصصة لدعم التعليم، على سبيل المثل، يمكن الافادة منها للتطوير الهيكلي لنظام التعليم اللبناني ومناهجه، بما يتلاءم مع خطة "الأونيسكو 2030"، وهذا يتقاطع مع أهداف وزارة التربية.

لقد كان بإمكان لبنان القيام بتجرية موازية لتجربة الأردن الذي أنشأ مناطق صناعية تم فيها توظيف اللاجئين والأردنيين، وخلقت فرص عمل كبيرة، بالإضافة إلى تشجيع المهن الحرفية وإستقطاب الاستثمارات لإنشاء مشاريع فيها.

لذلك، من الممكن تحويل الأزمة فرصة، وهذا يعود أولاً وأخيراً إلى كيفية إدارة هذه القضية ومقاربتها، التي يُفترض أن ترتكز على مبدأي مسؤولية الإنقاذ والاستقلالية. من الممكن، لا بل من الضروري، أن يلتقط لبنان فرصة الدعم الدولي لإطلاق أوسع عملية إصلاح هيكلي وجذري في مختلف قطاعاته، ولا سيما الصحية والتربوية والشؤون الاجتماعية وسواها، وفي مقدمها ايضا تعزيز التنمية على مستوى المجتمع المحلي المضيف، وهذا أكثر إفادة من تغييب السياسات الشاملة في مقاربة هذه القضية الانسانية الكبرى.

ختاماً، كل الشكر والتقدير لصحيفة "النهار" على فتح هذا النقاش الضروري، وهي التي لطالما كانت سبّاقة في حماية الحريات الاعلامية في لبنان على مدى عقود، وقدّمت تضحيات غالية في سبيلها. إن شراكة الصحيفة مع الجامعة الأميركية في بيروت التي خرّجت أجيالاً من الأحرار تعطي الأمل بإمكان التغيير في مجتمعنا ومنطقتنا العربية. 

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم