الأربعاء - 24 نيسان 2024

إعلان

مفردات اللعنة الوجودية في الشعر العربي القديم "الأعشى الأكبر أنموذجاً"

احمد الشيخاوي
A+ A-

[ودّع هريرة إنّ الركب مرتحل / وهل تطيق وداعا أيها الرّجل

غراء فرعاء مصقولٌ عوارضها/ تمشي الهوينى كما يمشي الوجى الوحل

كأنّ مشيتها من بيت جارتها/ مرّ السحاب لا ريث ولا عجل].(1)

حين تولدُ على عجل، مصحوباً بهتاف الجاهلية المنتصرة للقدوم الذكوري، ممجّدة إياه حدّ التأليه، فضلاً عن فروسية الكلام التي قد تطبع ولادتك، عندها لا يمكن إلاّ أن تكون بهذا الحجم الوجودي الذي يباهي برفعك فوق قدرك، ويلبسك عنفوان العمر مرّتين.

وُجد الشاعر المخضرم، ميمون بن قيس بن جندل (570 م ــــــــــــــ 629 م) الذي لقّب بالأعشى، في انحداره من "منفوحة" باليمامة، ليعيش على صفيح ساخن، بين مناوشات الفرس والروم للتخوم العربية من جهة، والصراعات القبلية في مناخ عربي صرف، من جهة ثانية، وهو ما منحه مواصفات الشخصية القوية المعتدّة بمضاضة اللسان، ونارية القول الشعري.

تميّز عن العمالقة المجايلين له، من شعراء، تخلّد أسماءهم المعلقات في عصيانها على عوامل التعرية التي كثيراً ما جبّت وطمست العديد من الأدبيات والشعريات الموغلة في التاريخ القديم، وبصم خصوصيته وفرادة ترنيمته، عبر أساسيات عدّة، نذكر منها، على سبيل المثال لا الحصر، قصة إسلامه المؤجلة، وقوله المأثور في ديدن التكسّب والاسترزاق الذي دأب عليه كثيرون، خارج حدود إيديولوجيا معينة تبرّر ضرورة إتيان هذا المثلب.

ففي موقف مناسباتي للأعشى الأكبر، يمتدح الرسول، قائلاً: [ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا/ وبتّ كما بات السّليم مسهّدا... وما ذاك من عشق النساء وإنّما/ تناسيت قبل اليوم خلّة مهددا... ولكن أرى الدّهرَ الذي هو خائن/ إذا أصلحتْ كفّايَ عاد، فأفسدا...كهولا وشبانا فقدتُ وثروة /فلله هذا الدهر كيد تردّدا... نبيا يرى ما لا ترون وذكرهم/أغار لعمري في البلاد وأنجدا... له صدقات ما تغبّ ونائل/وليس عطاء اليوم مانعه غدا...أجدّك لم تسمع وصاة محمّد/نبي الإله حيث أوصى وأشهدا...إذا أنت لم ترحل بزاد من التّقى/ولا ميّت بعد الموت من قد تزوّدا...ندمت على ألاّ تكون كمثله/فترصد للأمر الذي كان أرصدا].(2)

أن يضعك المصير، إذ تلعب لعبتها الأقدار، على صفيح ساخن كهذا، كيف لا تلعن وجودك، وتحرث بفروسيتك، دروب الحياة المترعة بالألغاز والأسئلة الكونية، تختصر المسافة إلى كينونتك، موجوعا، وأنت تعيش كامل هذا الاهتزاز،شعر يرتقي بك الأسباب ويمنحك السمو الروحي، حتّى ليجعلك تشْرقُ بثمالتك البرزخية، ولذاذة سرنمتك في سرب الفطاحلة الذي خلّدتهم معلّقاتهم،ونقشت ذكراهم جلية الملامح، في سجلات الخلود، فاحترقوا بلعنة وجودهم ليضيئوا العالم.

ماذا لك، إذاً، غير رمادك هذا، والذي تسجّل به في كلّ جيل ولادة طوباوية، تجبّ ما قبلها؟

لست نكرة ولن تكون، مادمت تلمّظت منذ أولى صرخاتك الوجودية، بفعل اللعبة القدرية، دائماً، ثدي المقولة مفتية بفلسفة أن تكون الذات أو لا تكون.

وما دمت استطعت الفكاك، وقطع حبلك السّري، بارتباطات تجرّ إلى معترك الفناء.

لم يحشر الأعشى الكبير أنفه، في كأس شعر التكسّب، اعتباطاً، وطلباً للترّف، ولم يغرّد بهذا الديدن منجذباً إلى سرب سالكيه الملعونين بصوتهم المتّهَم، دونما وعي وإستراتيجية وتخطيط مسبق، بل فعل ذلك لحاجة في نفس يعقوب، أراد الاّ يثبّطه عن سياحة روحية تضيف إليه جملة من معاني العمر المضاف، وتخلع عليه قميص السندبادية التي قد تغتني به التجربة الشعرية، وتحقن ماء الحياة في ترهّلات ونتوءات العمر.

ولقد تأتى له ذلك، بحيث تُرجمت العديد من قصائده إلى العديد من الألسن، كالألمانية.

كتب وهو أحد أبرز شعراء الطبقة الأولى في العهد الجاهلي، في كل الأغراض الشعرية، من غزل ومدح وهجاء... إلخ.

ومنعه تسويفان، من اعتناق الإسلام، بحسب المستفاد من أقوال من درسوا سيرته وشعره، في الأولى منعه عارض الزنا، وفي الثانية عارض الخمرة، بحيث كان كلّما أبلغ أن الإسلام يحرم كبيرة، يعلم الأعشى أنّه يأتيها، يعود أدراجه، مغتالاً نية إعلان إسلامه في حضرة الرسول الخاتم محمد صلى الله عليه وسلمّ، يعود إلى بيته للتخلّص من ذلك المثلب، حدث معه هذا في مناسبتين، في محاولة لترك الزنا والرّاح، بيد أنه في الأخير توفي دافعا ضريبة التسويف.

أما عن طبيعته التّكسّبية، فقد وردت لسالف ما ذكرنا من مآرب، فصّلنا فيها قدراً تسمح لنا به الورقة، ويتيحه لنا حيز المناولة هذه، نبشاً في سيرة شاعر عظيم لقّب بأبي البصير، الأعشى الكبير، فارس القول الشعري الذي استطاع أن يغوي بموائد شعريته ملوك العرب والعجم على حدّ سواء، مثلما استطاع أن يثري معجم العربية بمفردات لعنة الوجود، متزمّلاً بالرؤى الفلسفية الثاقبة المغرقة في أبدية هيمنة الشرّ الآدمي، وفتكه بالنوع البشري، جيلاً تلو جيل.

إحالات:

(1) أنظر لامية الأعشى

(2) قصيدة مدح الرسول


شاعر وناقد مغربي

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم