الثلاثاء - 16 نيسان 2024

إعلان

"بدل الحليب شرب صغارُنا الشاي"!..

آية يونس
A+ A-

البعض لا يدرك مدى صعوبة ان يترك الانسان أرضه وبيته ورزقه وأهله، فيحمل بين يديه أهم ما يستطيع ان يجلبه معه الى بلد الملجأ، مودّعاً المشهد الأخير الذي ربما لن يراه مجدّداً ويدير الظهر ذاهباً حيث لا يدري ماذا ينتظره...


قصّة جديدة عن إحدى العائلات السورية اللاجئة. عائلة ابو راوي. هربت من الحصار في معضمية- دمشق، ووصلت الى لبنان حيث سبقتها عائلات أخرى من الجيران والأقارب الذين ساعدوا الأب على ايجاد منزل في احدى البلدات اللبنانية : تنورين.
هربوا من قلّة الدواء والطعام والمياه والكهرباء لعلّهم يجدون الأفضل في لبنان فـ"القلّة" في الغربة تبقى أرحم من "القلّة" في بلادنا، نحن نرضى بالقليل مما يقدّمه لنا أهالي هذه المنطقة المحبّون لكن لا يمكن أن نرضى بالجوع في بلدنا "، هذا ما قاله الأب بصوت متقطّع وبحرقة عميقة.
تقول ام راوي ان العناية الالهية هي التي أنقذتها مع أولادها حتى وصلوا سالمين الى لبنان. تنظر الى طفلها محمّد الرضيع، وتخبرنا انها كانت حامل به عندما هربت مع بناتها الصغار وولدها راوي. شكرت الله على النعمة لكنّها لم تبخل بالكلام عمّا كان يجري في سوريا قبل نزوحهم، فـ "الطحين الذي وصلنا رائحته كريهة، وهو لا يصلح للعجن وسبّب مشاكل كثيرة للأولاد"، وتعود لتقول "حشى النعمة لكن هيدي الحقيقة، بدل الحليب شرب صغارنا الشاي، لكن لا يمكن ان ننسى فضل التنوريين وكرمهم وتقديمهم لنا الحليب والخبز والمعلبات..نحن نشعر اننا في بلدنا الثاني". ويقطع الحديث زوجها معلقاً على كلام زوجته بأن اللبنانيين والسوريين شعب واحد، قائلاً "الي بيطلع من تيابو بيبرد".
راوي ، ابن الستّ سنوات، لا يذكر من أسباب مغادرته سوريا سوى سبب واحد: "غادرنا لأن القصف كان قوياً"، وكان حزيناً لأنه لم يتمكن من احضار لعبة السيارة الصغيرة معه. عائشة شقيقته تتكلّم بجرأة أكثر "التيتا كانت كتير مرضانة ما اجت، وعماتي ما قدروا يجيبوها لهون ما فيها تمشي"، ثم ركضت الى والدها طالبة منه ان يعطيها الهاتف لترينا صور عائلتها في سوريا. وكم هي ذكيّة تلك الصغيرة، حاولت تعليمنا كيفية استعمال الهاتف قائلة " باللمس مو بالكبس"، بدأت تنقر باصبعها الصغير على الشاشة لتقليب الصور بلهفة. هذه صورة للممثلة التركية "سمر"، و "هيدي سمر مرتو لمهنّد، حبيبة قلبي وقلب ماما"، تقول عائشة، في حين تضحك الأم مرددة "وعدتك نجيب تلفزيون تنحضرا بس استني علينا شوي".
ام وابو راوي يتعاونان من اجل تأمين لقمة عيش العائلة، في هذه الأياّم تتحضر تنورين كباقي القرى اللبنانية لفصل الشتاء، فنرى الجميع ينشر الحطب، ويساعد الزوجان بعض عائلات تنورين في نشر الحطب مقابل دخل يومي. تمسك ام راوي الحطب بقوّة حتّى يتمكن الأب من قطعها بالمنشار الكهربائي، هذا اذا توفّر لدى أصحاب البيت وإلا سيضطر لنشرها بالمنشار اليدوي.
الصغيرة عليا تركض ولا تتعب بين الحطب، على الطريق، تختبىء تحت الطاولة، تقترب من النار دون ان تخاف. تشبه اللعبة الشقراء تضحك وتغني، تحاول اخذ الهاتف من يد أختها فتتشاجران، يضرب احدهما الآخر ثم تتصالحان. ملامح وجهها لا تشبه تلك التي نراها على وجوه عائلتها. للعمر أحكامه! براءة الطفولة لم تسمح بعد لها ان تدرك انها فتاة هجرت بيتها بفعل الحرب والجوع والقتل والدمار، وربما لن تتمكن من دخول المدرسة كباقي الأولاد لأن الفقر سيقف حاجزاً في طريقها وطريق اخوتها الصغار الذين بدأوا ينسون ما تعلّموه في مدرستهم في سوريا بسبب عدم المتابعة.
مأساة اللاجئين الفقراء لا تقتصر على الجوع والمرض إنمّا على مصير مجهول لا تعرف ماهيّته ولا توقيته. وما أصعب العيش دون الاستقرار، ومن دون طموح وأحلام وأمل. عائلة "ابو راوي" لا تتمنى سوى شيء واحد: نهاية الحرب في سوريا! عسى ان تكون النهاية قريبة، وبداية لحياة مستقرّة وآمنة على أرض الوطن...


[email protected]
Twitter: @ayayounes01

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم