الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

الشاعر الأردني زيد الطهراوي: شعرية البشارة في سياقات عروضية

المصدر: "النهار"
احمد الشيخاوي
الشاعر الأردني زيد الطهراوي: شعرية البشارة في سياقات عروضية
الشاعر الأردني زيد الطهراوي: شعرية البشارة في سياقات عروضية
A+ A-

وأنت تقرأ عوالم هذا الاسم، على امتداد خريطة إبداعية، يبدو فيها وفيا للكتابة العروضية، اللهم ما لوّنته روح التجريبية في بعض المحطّات عبر مناوبات على النظم التفعيلية، تليها في درجة التعاطي استعمالات مقلّة لقصيدة النثر، وهو ديدن لدى صاحبنا يغبّ التمظهرين الأخيرين لمصلحة الممارسة الخليلية كما أشرنا، ويمنحها الهيمنة على ما عداها من الأجناس في المنجز زيد الطهراوي برمّته، استفتاحا بالباكورة "هتاف أنفاس" الموقّع سنة 2013، مرورا بواسطة العقد "سكوت" 2016، فآخر العنقود الديوان الصادر مطلع العام الجاري باسم "سنديانة الأشواق" وما ينطوي عليه من أسرار ومعدلات صعبة تغوص في ظلمة الذات والحياة.

قامة، بمعيتها يلبس المتلقّي الحنين إلى أمجاد ديوان العرب، بحيث تجابه قصائد رافلة بمعاني حياة ثانية موازية، ليس بالمقدور صوغها على النحو الذي تجدّف به ريشة زيد الطهراوي ضمن حدود خريطة تقطع أو تكاد، الطريق على المفردات القشيبة، لتلوذ بسائر ما من شأنه أن يسعف بابتكار لغة جديدة ويفتح آفاقاً مغايرة للمعنى الذي بإمكانه ترجمة مقاربات ألصق بروتوشات معجم اليومي ونثاره، وأقدر على بلورة أفكار تنبثق من رحم التحوّلات والتقلّبات الملمّة بواقع قضايا العروبة الكبرى وما يواكبها من هزّات ومسخ لمعضلات عالمية هي وقف بالضرورة على ثنائية التأثير والتأثر، بما الفعل ـــ أخيرا ـــ جناية آدمية مقصودة وجريمة نكراء تهدف إلى اغتيال الأنبل والأشهى والنضر في إنسانية كائن بائس يحاول مواصلة النضال ضد تجاوزات مجانين الألفية، وهم ينتصرون لكمون البهيمية فيهم ونعرة تأليه الماديات، على حساب روح آخذة في الذبول والتسليم بفصوله المطفأة نتيجة زمهرير الاغتراب، مضاعفا وعلى نحو يشوه المنظومة المفاهيمية الغامزة ببراءة الانتماء، مثلما يسوّق لثقافة الوطن المنفى، وإن غازل بطوباوية حضارة إنسانية تتشدّق بكونية تخطّي الألوان والأعراق والمعتقدات والألسن، والحقيقة أنها تظل وهمية ومزعومة يفنّدها راهن ما النوع البشري يسلكه مؤذنا بمسرح النهايات الكارثية وزحف مشهدية الانقراض.

تحاصرك تجربة هذا الشاعر، صورة وإيقاعا ورؤية، بصدقية المناولة المبطّنة بوصايا المرحلية البعدية الأقصى توغلا في تلافيف الذاكرة، ليس العربية فقط، بل والإنسانية أيضا، فهو لا يتغاضى عن بثّ حيوات الرموز على اختلاف جنسياتهم وهوياتهم، قسطا يسكب سيرهم وإبداعهم. في نصوص زيد الطهراوي، ما يجعل نظير هذه التجربة مرتعاً لذائقة تترصّد فلتات التشرّب والنهل من ميتافيزيقيا المشترك، وعقليات تنزع صوب الغذاء الايديولوجي المترع بنورانية الشخصية والتشخصن، لدى سدنة الزعامة وعمالقة التاريخ ومن على شاكلتهم ممن نقشوا أسماءهم في سجلات الخلود.

وإذا ما تأمّلنا شعر هذه القامة، وجدناه مدغدغا بتوليفة العقدي والإنساني، تماما كما أسلفت في العديد من المناسبات التي أغدق عليّ فيها رسم أنامل تشتعل من رماد الأحجية، لا يعق صاحبها غصن القول الشعري المنذور لأصول ديوان العرب وأبجدياته، لكن وفق خطوط متضوّعة بالأريحية الإبداعية بمعزل عن الصنعة أو التكلّف الجائر على المعنى لحساب النظم المشوّه المردود، وإنما ترنّم بمعاني الحياة الموازية لراهن موبوء تبكي الذات الشاعرة دمويته ووحشيته وعنجهيته ومهزوزيته، وإن تبث الإيقاع بمعية زيد الطهراوي، في التفاتات وتنويعات تشاكس بجنسي التفعيلي والمنثور.

نقتبس له الآتي:

يقول في أحد المواضع: [تتأرجح أشجار في الريح/ و يغيب الفلاح عن المشهد...القلب يتيم و جريح/ و اليأس به مغمد... جئ يا فارس تحمل عزمك/ كي تنقذ أشجارا تحصد](1).

ويقول أيضا: [ها نحنُ في أرض تفتق قلبها / عن وعد حب يستفيق مغامرا...لو كان حقا إن بعدك ناجع/ لوددت أن أقضي الحياة مهاجرا... عبئا حملت بخافقي و وجدتني / أشكو إلى الرحمن حبا قاهرا](2).

وأيضاً: [هات نصيحتك العليا / ضمدها بزهور الدرب ... كم من نصح يسمو / قد أفسده رمح الشجب ... كل جروحي شفيت / إلا جرحك يا قلب](3).

مثلما يقول: [فحرِّر المسجـد الأقصـى لقـد طمعـت / فـيــه الـذئــاب وهيىء قـبــر مـحـتـضـرِ... وصـالــحِ الـقــوم فـــي أيـــام محنـتـنـا/ تُهَـذِّبِ السيـف فــي غـمـدٍ مــن الـحـذرِ... وبعـدهـا جــدْ بـأشـبـالٍ لـهــم عـــوضٌ/بــرؤيـــة الــحـــق والـجــنــات والــنُــهُــرِ... هـا قـد درجـت بأفـعـالِ الــذرى ولـقـد/عــاد الـجـزاء بشـكـر السـعـي و الظفر](4).

وفي موضع آخر يقول: [ أجيئك محمولا على عطر بسمتي / فما أصعب اللقيا مع العبرات... وأبدع في صقل القوافي فديدني/ ملاقاة إخواني وهجر عداتي ... فيا أيها الباكي على كل عابر / أمامك قلب طاهر الحركات ... فأودع به الشعر الشجي وهيئن/ نجوم طريق ترتقي لحياة ] (5)

ويقول: [نشر العقيدة في الجزيرة صابرا/حتى تعالت صيحة الأحياء ...فتضرّعوا لإلههم وتوحّدوا/وتسابقوا بمودة وإخاء...لمن يباركه الإله بعفوه/ والأهل أرواح رنتْ لغذاء...نور من الرحمن يرسلها إلى /حزب يجمع زمرة الحنفاء ... إن أيقنت بالله تعبده على/ هدي الحبيب وشعلة العلماء](6).

ويقول أيضا: [الرحلة تبدأ فينا و عواطف من ساروا /طامحة لسماوات/ أم تحضن طفلا طار بعيد حنان و سبات/

وتورثه عادتها في إنعاش الشوق لأقمار/ تتحدى الليل بنبضات /يا هذا الطائر من علمك الشعر و من /كون بنيان البصر الثاقب في صورتك الممتلئة بالهالات ](7).

هكذا، ومع الشاعر زيد الطهراوي، نجد الرحلة تنبثق من خلفية الاختمار الكينوني الذي لا يرى في غير التوجه الخليلي مطية لآمال الذات وآمالها، راجعة ببشارة النصّ الفولاذي العصي على الاختراق وإن أغرى ببضع من ثغر.

وهو تكشّف شادٍ بثورة روح الشعر العاشق لجماليات الأنا والغيرية والحياة، جارف بالهديل الأنوي في تذويبه للبون أو الهوة المفتعلة ما بينه وبقية العناصر الأخرى داخل فضاء متعثّر بخيبات وانكسارت النوع، ومستأنس حدّ الانخطاف بغيبوبة وجودية، وحالات تأمّل وطقوسيات تستعير أقنعتها الخطابية من عوالم الطاوية المتقوقعة على مركزية الكائن متساميا بجوانب النوراني والخيرية المنوّمة في أدغاله.


هجرة روحية بامتياز، تأبى من خلالها وعبرها الذات إلاّ أن تعقّ موجة العروضي الذائب في زئبقية المعاني البديلة التي تنزع صوب أسباب اقتراح برزخية موازية مقلّصة لمنسوب ودفق الوجع.

بحيث لا بشارة ضد التيار أصول القول الشعري، منفتحا بنصوصه على مقامرة توليدات مغرقة برؤاها المواكبة وضاجة بمرايا التحوّل أو المسخ الذي تتمّ ممارسته على ثالوث الذاتية والغيرية والكونية، البشارة مضغوطة بإيقاعات الفطرة المثوّرة لبؤر المتوالية أو الأيقونة القيمية في الكائن.

لأنه وعلى الرغم من انبثاق كهذه شعرية من مستنقعات العزلة الذاتية مسومة بخيوط سمّ قيامة عالمية هي من صنع إيديلوجية زائفة وأنانيات ونفعيات ضيقة، تماما كما هو محكي واشيةً به فخاخ بياضات قهرية الذات.

ختاما، يمكن القول إنّ القصيدة العمودية، ما دامت مختزلة في مثل هذا الصوت الراعي لانشطاراته بين هواجس القضايا العروبية الكبرى، والأسئلة الهوياتية المسكونة بروح الكوني والنابضة بانشغالات المشترك الإنساني، لا ريب أنها، أي القصيدة، تشكّل قوة تعبير فني، ومغناطيس جذب معه الشعر يلبس عنفوانه على أكثر من طريقة وبكذا أسلوب يبرز الشعر مُرعبا ثريا بجدّته لغويا وتصويريا وإيقاعيا.

هي شعرية البشارة في نهوضها على الحِلْمية الواقعية المزدهرة بديباجة فلسفة انتمائها لأصول وقواعد ديوان العرب.


إحالات:

(1)أنظر ديوان "سنديانة الأشواق"

(2)قصيدة أرض الإخاء

(3)قصيدة إلاّ جرحك يا قلب

(4)أنظر ديوان" سكوت"

(5) قصيدة صقل القوافي

(6) قصيدة أنوار في عتمة اليمن من ديوان "هتاف أنفاس"

(7)قصيدة بشارة طائر الأشجان


شاعر وناقد مغربي

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم