الثلاثاء - 16 نيسان 2024

إعلان

حبُّ الزيتون اللامع من ثمرات الكِلاب السائبة

المصدر: "النهار"
نجم الدين خلف الله
حبُّ الزيتون اللامع من ثمرات الكِلاب السائبة
حبُّ الزيتون اللامع من ثمرات الكِلاب السائبة
A+ A-

اسمي Olivia ويعني في لغتكم: "حبَّة زيتون". ظللتُ، طيلةَ طفولتي، ألعنُ أبي: لماذا لم يختَرْ لي من الأسماء إلا هذا؟ "زيتونة" ! أضاقت عليه الأسماء بما رَحُبت؟ أعملُ متعاقدةً بوزارة الخارجيَّة الفرنسيَّة. مَنصبي بلا قيمة، ولا أهميةَ تُذكر لعملي: فأنا أشتغل على إحصاء عَدد الأشجار التي تُغرس كلَّ سنة في مدن المغرب الأقصى. مُهمتي حصر هذه المغروسات ودراسة أنواعها، أحجامها، أسمدتها...ومصائرها. مع الأسف، لا أشتغل على قضايا الشرق الأوسط السَّاخنة، ولا على رهانات دول شمال إفريقيا. عملي متابعة عدد الأشجار التي تغرسها البلدياتُ على جانِـبَـيْ الطرق المعبدة. وعليَّ تسليم إحصاءاتي إلى "مصلحة التعاون البيئي"، التي استحدثها وزير الخارجية نِكايةً في زميله وزير البيئة، رئيس حزب الخُضْر الفرنسي سابقًا.هما يتنافسان بشراسةٍ. لا أدري لماذا؟

مديري تافه و"pervers". لا أعرف كيف أترجمُ هذه الكلمة إلى لغتكم. يطلب مني كلَّ أسبوع إحضار تقارير جديدة عن ألوان الأوراق، أشكالها، مواقيت إزهارها، وخاصة نوعية الغبار المستخدم في تسميدها. هو مهووس بالخُصوبة... مِثلي تمامًا. يتفنن في ابتكار أبحاث عن الأشجار ويأمرني بإجرائها بغطرسة قاتلة. الأدهى والأمرّ، أنه يكاد لا يفتح تقاريري ولا حتى يقرأها. لا يقرأ تقاريري أحدٌ، مع أنني أمضي في إعدادها ساعاتٍ وأجري لأجلها اتصالات شائكة.

أحيانًا أنتهي من التحرير عند الساعة التاسعة ليلاً. أهاتف أبي خلال استراحتي القصيرة، التي أستَرقها وألتمس منه تقديمَ وجبة العشاء لابني الوحيد. بالمناسبة هو ابني بالتبني. منذ عشر سنوات، "جَلبتُهُ" من ضواحي مدينة فاس بعد أن فَشلت كل محاولاتي في الإنجاب. حاولتُ كلَّ الأدوية والوصفات العلمية، ثم جرَّبتُ العقاقير والأعشاب. لم ينفَع معي شيءٌ. تخيلْ. زرتُ أضرحةَ الأولياء الذين نسميهم عندنا: « Saints » لتجريب الحَشائش التي يوصي بها حفظةُ مَزاراتِهم. رفضَ الأطباءُ والأولياءُ إسعادي. أظنُّ أنَّ وليَّ فاس لم يَغفرْ بعدُما جناه الفرنسيون على بني جِلدَتهِ، فظلَّ يلاحق أبناءَهم وأحفادهم بنفوذه وسحره. أنا من ضحاياه. انتقَمَ مني فَعَطَّل الخصوبة في أحشائي. أمره نافذٌ وأثره في الأرحامِ عجيب. مع ذلك، صليَّتُ تحت قِبابه وأشعلتُ في ضريحِهِ الشموعَ. ذات فجرٍ، نَحْرتُ عنزًا أسودَ لزائريه، عساه يغفر لأجدادي ما اقترفوه بحق نساء قَريته، وما استباحوه من أراضيها...رَجوتُهُ يومَها أن يبعثَ إلى رَحِمي بركَات الخِصب والإنجاب. ولكنْ، ذهبت صلواتي هباءً منثورًا. أأنا زَيتونة مُباركة؟.

لما قَرّرتُ التبني، انصرفَ ذهني طبيعيًا إلى أرياف فاس وساكنيها من فقراء الفلاحين. يُحوج العوز بعضَهم إلى التفريط في فَلَذات أكبادهم مقابل مبلغٍ مالي. كان جدِّي لأبي مقيمًا عامًا بالمغرب. وكانت لديه ضياعٌ شاسعةٌ، في نواحي فاس "اقترضها" من الفلاحين إلى أجل غير مسمى. أفهمتَ الآن سببَ عِشقي للعَربيَّة؟ الأرضُ والأهازيجُ حين تنبعثُ من الذاكرة. عندما كنا صغارًا، كان جدي يحملنا مع والدي وإخوتي إلى ضِياعِهِ الفاسية، حيث نُمضي أيام العطلة. في القيلولة، حين يشتد الحرُّ، كان يُهدهِدني ببعض الكلمات العربيَّة التي حفظها عن الفلاحين. كان المساكين يعملون في أراضيه مقابلَ لا شيء. وكان إيقاع الهدهدة يَسحرني وترانيم الحَصَّادَة تأسِرُني. أتحدَّى عُقمي بصدى الأنغام التي تضوعُ مع أرج الرياحين. كانت البساتين خضراءَ خِصبةً وخيرُها يفيضُ كرومًا وزيتونًا ونخلاً.

أقنعت زوجي بالتبني. لم يتحمس للفكرة ولكنه عارض بشدة اختيارَ البَلد. "أرضُ الله واسعة. لماذا تُصرّين على طفلٍ من أصول مَغاربيَّة؟". راسلتُ مصلحة التبني بوزارة الخارجية. تخشى هذه المصلحة الاتجار بالبشر. سألتني عن كل التفاصيل وراقبتْ كلَّ شيءٍ عندي، حتى أنها طلبت مني شهادة طبيب نفساني للتأكد من سلامة ذهني وذهن زوجي... السابق.

ربما حَدسْتَ أنَّني مُطلقة. "فهذا يَقفز إلى العيون" كما نقول في لساننا. حَدسُكَ في مَحلِّه. سببُ طلاقي أسئلةُ "ابني" عن تاريخ فرنسا المعاصر. فمنذ بلوغه سنَّ الثامنة، لم يتوقف عن طرح أسئلة حول تقاليد "العَرب"، قيمهم و...أطفالهم. يُدهشه اختلافُ Les Arabes، كما يقول بصوته البريء. ظل زوجي يتهرب من إجابته. أنا متأكدة أنه لم يحبَّ يومًا هذا "المغربي الصغير". كان يردد لي بوقاحة: "لا نعرفُ ما تُخفي جيناتُهُ !"

أحسُّ أنك تستثقل لغتي. فأنالم أتعلم العربية إلا بعد أن تجاوزتُ سنَّ العشرين. كان أستاذي الأول شابًا مغربيًا. بعد دقائق قليلة من الدرس، بدأ يداعبني ويناديني: "زيتونة". كان مزاحُهُ ثقيلاً. عَوَّضتُهُ بمُدرِّسة شابة. كانت تقضي الحصَّةَ كلها في التدخين وسبّ les Arabes. "متوحشون. يَحتقرون نساءهم. تَخيَّلي. لا يؤمنون أن الرّجل يمكن أن يكون عاقرًا. يعتقدون أن العُقم خاص بالنساء، حتى مفردة "عاقر" مؤنثة لا توجد في لسانهم". هذا ما قالته لي في بعض الدروس. لم تكن تعلم أنني لا أنجبُ. اعتذرتُ عن بقية الحِصَص مَعها. في المرة الثالثة، جرَّبتُ الدروس الليليَّة. كانت مكثفةً ولا منهجَ فيها. يأتيها سليلو "الأرجلِ السُّود" الذين عاشوا في بلاد المغرب العربي، وبعض المُلتَحين الشباب من أبناء الجيل الثاني والثالث.

طلب مني المدير إعداد مُذكرة مفصَّلة حول "تسميد الأشجار بالمَغرب الكبير". لا أدري لماذا تُصرُّ مديريَّتُنا على مُتابعة هذا الملف. "يقتضي التسميد العصري تعامل المغرب مع شركاتِنا المنتجة للأسمدة. لهذه الشركات فروعٌ في العالم بأسره. بعضُها غطاءٌ لشركات الطيران والسلاح. وهي أكبر داعمٍ للحزب الحاكم. وها قد صارت هدفًا لتنديد حزب الخُضر... هناك حسابات سياسية وراء السماد. حسابات كبيرة ربما لا تدركينها بعقلك الصغير، يا أوليفيا." هذا ما كان يُجيبني به كلما بَدَت الحيرةُ على وَجهي المُنهَك.

 البارحة، سألني ابني عن "ثريا الشاوي". لم أحِرْ جوابًا لأنني حاولتُ، من زمان، أن أخفيَ عنكَ وعنه تَفصيليْن: أكَّدت صحفُ تلكَ الحقبة التي طالعتُها أنَّ جدي، المقيم العام، هو الذي أمر باغتيال ثريا شاوي نكايةً فيها وفي أبيها، لأنها تحدَّت سلطات الحماية وصارت أول طيَّارة عربية...اغتال جدِّي "خالةَ" ابني. نعم. ابني هو حفيد أخت ثريا. بعد مقتل شقيقتها الصغرى، قبيل الاستقلال بيوم، سافرت جدةُ ابني إلى ريف فاس لتتزوج من فلاح فقير، تاركةً وراءها حياة البذخ التي عرفتها العائلة في الدار البيضاء. أنجبتْ منه سبعة ذكورٍ. من صُلب أحَدِهم انْحَدر ابني. ظل الفلاحون البسطاء يَهزجون كلما أنجبت نساؤهم وأثمرت حقولُهم. أخبرني أحدهم: "أفضل طريقة لتخصيب الأشجار هي دفنُ كلبٍ ميتٍ في مُحيطها. حبُّ الزيتون اللامع من ثمرات الكِلاب السائبة".

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم