الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

العسل الجديد... رحلةٌ من وجع التّراب إلى طبقات الأثير

المصدر: "النهار"
أدال الحوراني
A+ A-

"الحبّ والإيمان وحدهما، يسمحان لنا بالخروج من أنفسنا" و"الشّاعر لا يطلب الإعجاب أبدًا، بل يود ّأن يصدقه الآخرون"، من أقوال الشّاعر الفرنسي Jean Cocteau حول أهميّة الشّعر في حياتنا. بطمأنينة الحكمة، يُدخلنا ربيعة أبي فاضل حياته التّأمليّة، والعمليّة، والأدبيّة، وبدهشة الذائقة الإنسانيّة فينا، نخطو في أروقة كتابه "وَحْدَها الحِكْمة". فشيخ العزلة، بعد أن رنّم ألحان السّكينة، أنزل عليها شذرات الحكمة، بلغة جديدة، بعد معرفة عمرها ستة وستين عامًا لتكتمل مدينته، المدينة الإنسانيّة الّتي يرفرف في فضائها الحقّ والسلام. في "وَحْدَها الحِكْمة"، يعيش القارىء جميع ما عايشه، من حزن أو فرح، اضطراب أو سلام، من استغفار وتضرّع أو شكر وتسليم... فيتعلّم كيف يصلّي شعرًا وسلامًا، بحرّية داخليّة، في حديقة الحبّ، حيث السّعادة الحقيقية.

موسيقى الرّوح

في خلجات إنسانيّة، مغمّسة بجمال البحث عن الحبّ والحياة، يبدأ الديوان بـ "لو" التّخييريّة، فيعرّي إنساننا، إلّا من حريّته وإنسانيّته. فندخل أحرارًا بيت الحكمة، برقي الإنسان فينا، وندع خارجها الكره، والكفر، والقتل. نلج أولا، في رواق الرّوح، سعيًا إلى صورتنا الّتي خُلقنا عليها، صورة الإنسان الحيّ، الّذي يصنع، ويحاور، ويكون بالحبّ والسّلام والرّحمة. وبالثالوث القدّوس، يردّده ثلاث مرات "لو كنتُ أُومن حقًا... – أن أُومن بالله... – لا أستطيع أن أكون مع الله... – ما علمني الله... – الله لا يكره... – ما الذي نتعلم من... – مُنتهى طموحي... – أنت الذي..." يبدأ الشاعر يقينه، من القلب إلى العقل، تعبيرًا عن حالته وحاجته الرّوحية، ومن أعماق ضعفه يتضرّع إلى الله، ويتّحد به، في نوع من تداخل كياني.

ووسط تنامي مشاعره، وصوره، وإيقاعاته، تغنّي "الأنا" نشيدها، ليس كنبي جبران الواعظ، أو مرداد نعيمة المعلم، أو سوبرمان نيتشه الجبار، وأفكارهم اليوتوبية المتعالية، بل "الأنا" الموجودة الآن، الّتي تعيش حالة التّشظي من جهة، والتّغرّب من جهة أخرى، والحلم بملكوت غائب. هي أنا – نحن – الإنسان في القرن الواحد والعشرين، الّذي يعاني، وما يزال، يبحث عبثًا عن سلامه المفقود، بين دهاليز القشور الفانية، وسراب الأنانية، وضجيج الحروب. لذلك، يعلو نشيد اليأس عند الشّاعر، وبأنين الخاشع يصلّي إلى الخالق، ويدعوه إلى خلق البشريّة من جديد! وفي خشوعه يسكب الوصايا الاثني عشرة، سبقتها معرفة ووعي، وحتمًا خبرة ثقافية، وأدبية، واجتماعية، وإنسانية، خلاصتها: "وحدها الحكمة". أثنا عشر فعلا، تُرينا روح الله فينا، فوحدها الحكمة: تُفرّح، تُقرّب، تَمنح، تحرّر، تنتصر، تعلّم، تكشف، تنتظر، تعرف، تصنع، ترضي، تبني. اثنا عشر اصطادها ربيعة من شبكة الحياة لولادة جديدة. ولادة تلبس الحبّ، بعيدًا من عبثيّة التّطرف الدّيني، والبحث عن وطن مشرّع الحدود. وأمام هذا المأزق الوجودي المأسوي، يُوجد الشّاعر نشيد الأناشيد الجديد، لهذا العالم، كطفل يرنّمه، ويدعونا معه إلى دخول ملكوت الرّحمة، عراة من طين الزّمان والكيّان، كنطفة ينبض قلبها أولى النبضات، تبحث عن جسد نورانيّ لا يعرف الألم والضّلال، لتخرج من الرّحم إلى الرّحمة الرّبانية، حيث الحبّ والجمال. وعلى إيقاع الأناشيد، تنكشف ذات الشّاعر، بنغم أورفيّ، وهو يُعلّم ويتعلّم، منذ أربعين سنة، أسرار الحياة القائمة على التّدبيرات الإلهيّة التّسعة: المعرفة، العطاء، الحوار، الإخلاص، الوداعة، الاحترام، التّضحية، الإبداع، والسجود أمام الحبّ الّذي هو الله.


حريّة النّفس وطمأنينة الرّوح

في خشوع المتواضع، ووجد صافٍ إلّا من لهفة الذّات إلى الكمال، يرتقي الإنسان – الشّاعر، إلى مصاف الأنقياء، وتنكشف له الحياة الأخرى، ما بعد الموت، فيرمي للقارىء حبل النجاة من الأسئلة الوجوديّة المقلقة، ويشدّه صعودًا، بإيمان حقّ، إلى الينابيع العالية العميقة، حيث البهجة المطلقة والسّابحة مع الحارس الكوني. كما يأخذ القارئ في رحلة روحيّة، على متن "أنْ" المصدريّة، يصوغ الموت من جديد، خادمًا للجمال، ومَعبرًا إلى ضفّة السّلام، عبر السّجود ثماني مرات، أمام الفجر، والبحر، والجبال، والشّمس، والقمر، والفضاء، والمعجزات الخارقة، وأهل الخير، الأعمدة الثمانية، والعدد (8) رمز العدالة، والقضاء والقدر، المتعذّر تغييره عند الاغريق، وكحقيقة ثابتة على وجود الله خالق هذا الكون، والّذي بوساطة روحه القدّوس تعلّم الشّاعر أسرار الانبعاث، المؤكد بـ "أنّ" وأخواتها، عناصر الحياة، والّتي بدأت بالكلمة، الآن وإلى الأبد، هبة الخالق، الّتي لا تليق إلّا بأبناء الله! فتنكشف تجربة الشّاعر الصوفيّة، ومعها توقه إلى ملاقاة الله، وتحرّر روحه، والشّرق، من الظلمات المسيطرة عليه باسم الدّين والجهل والغباء.

وفي جعبته نصّ الحبّ "أحبّوا أعداءكم، وأحسنوا إلى من يبغضكم، وصلّوا لأجل من يضطهدكم، لتكونوا أبناء أبيكم في السّماوات"، قانون إيمانه، وتعاليم مريم الحاضرة بيننا، بعذوبة طيبتها، وردائها السّماويّ، وعبق الأمكنة الّتي سكنها الشّاعر، ورفع بين جدران ديرها صلواته، والّتي أضافت بسحرها في قلبه، إيمانًا وفرحًا، في ذروة الأزمات! فكان الإيمان المعلّم الأول للشاعر، والّذي علّمه أنّ الله رحيمٌ غفورٌ، وموجودٌ، يحرّك الكون وفاق روح السّلام، لا ندركه إلّا من خلال الصّلاة العميقة، الّتي ترنّم أبدًا “Je t’aime”، تهمسها الرّوح تحت السّماء الزرقاء، فتسمعه، وترويه، وتشبعه، وتمنحه شعلة الألوهة. فمن غير الأم تشعل بحضورها قلب الشّاعر وذاكرته مفعمة بالشّوق، والامتنان، على القيم الّتي أنارت طريقه، وعلّمته أنّ الحبّ يمنحه فروسيّة نادرة، كأبيه حارس حياته، الّذي علّمه أن البُعد عن الدنيا قربٌ من الله! فمعلّم الشّاعر يعلّمنا الوفاء والوداعة ولكن، ما إن يدخل هيكل "هذا" التّاريخ، حتّى يشهر الشّاعر سوطًا على أوباش الشّرق، الّذين أُفرغوا من طاقات الرّوح، باسم الدّين، وأَفرغوا المسيحيين المشرقيين من بيوتهم، فأصبحوا مشروع شهادة لدعاة يأنسون للجهل ويسكنون خيام العنف، والموت!.

إلّا أن الشّاعر، مؤمنٌ بالرجاء، كنهر لا ينضب مجراه إلى ما بعد الموت، حيث الرّوح تسافر مع السّحب إلى الحياة، كسفر بارتروكلس، وأنكيدو، ولعازر، الّذي أحيته دمعة المسيح، وبرهن أنّ الحياة أقوى من الموت. فهو ابنٌ للحياة، يرتدي جسد الرّوح، منطلقًا في الأفق الآخر، حيث تنتظره حديقة لا تعرف الموت. وفي ثورته على التّاريخ المشرقي، يلتقط الشّاعر أنفاسه على عتبة منزل راهبة سيريلنكيّة، علّمته أن الحبّ لا يعرف الأحزان، وأنّ هُوية الإنسان هي الإنسانية، وليس بقعة جغرافية محدّدة، الإنسانيّة الّتي هي صورة الله على الأرض، رافضًا بدع الحداثة المشوّهة لصورة الإنسان، وكرامته، واستباحة المحرمات، أو أن يصغي إلى نفاق البِدَع، من بعض رموز الكنيسة الخارجة على روح الإنجيل. فالشّاعر بنى كنيسته في قلبه، نمنمت جدرانه المرأة الرّسولة، بعدما استحضرت الرّوح القدوس بلطفها، وحكمتها، وأمومتها، وعلّمته أن عمل الخير سلامٌ أبدي، وسُكْنى في قلب الله! فيقرع أجراس قلبه، في غيبة صوفية، "من الجنون إلى الحكمة"، ليخرج الموتُ منكسرًا، ويشرق صمت الحكمة البليغ في كيانه، عرفانًا منه، لوقوع عطشه في يدها!

رحلةٌ من وجع التّراب، إلى طبقات الأثير

إن الحكمة لا تَلِج الرّوح إلّا عبر المعرفة، لذلك يأخذنا الشّاعر "في رواق المعرفة (1)" بعد "في رواق الروح"، ببلاغة المعاني الرّوحية وسموها، وإلى المعرفة الأولى، وما وصلت إلينا من مؤلفات فلسفية وأسطورية ودينيّة وأدبيّة، عبر التّاريخ. تعلّم منها الشّاعر سمات اليقين القادرة على اعطائه قواعد الحياة والعمل، للتوفيق بينه وبين الطّبيعة. سئل فرويد ذات مرة عن الأساتذة الّذين أثّروا في تكوينه، فكان جوابه إشارة بيده نحو مكتبته حيث اصطفّت روائع الفكر والآداب العالمية. ليخلو الشّاعر من بَعد، إلى نفسه، وقد سجّلها تحت "التأملات"، وتناول فيها آراءه في الإنسان، والاخلاق، والدّين، والدنيا... محاولا تعميق معنى الحبّ بمواجهة وجود عابر، وعناية خيّرة تنفذ إلى الطّبيعة:

" يحرقني حنين الحبّ إلى الجنات والابتهالات

حيث نشوة الأشواق القدسية المطهرة...

والقلوب تسبح كما الطيور، والكواكب والأشجار

وتطلّ الحكمة بكلّ البهاء والجمال والصفاء،

حولها السحب، والمياه، وآيات تهب العالم

شرف الحياة... فتصيح القلوب من وهج الرّحمة !" (1)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1. ربيعة أَبي فاضل، وَحْدَها الحِكْمة، دار نلسن، لبنان، 2017، ص 54.

وبعد أن هداه التّاريخ إلى منزلته، ومكانه في الكون، من الناحية الفكرية، أكمل الشّاعر "في رواق المعرفة (2)"، سيرته في الزّمان والمكان، من الناحية العملية والعلمية، بخيرها وشرّها، الّتي تعلّم خلالها ممارسة الفضيلة الحقّة، عبر ارتقاء النفس من الخاص إلى العام، من مستوى الاحساس إلى اليقين، وأنّ الانتماء إلى الحقيقة بقوة الحبّ، هو بداية الحكمة التي توضّح ما يحدث وفق الزمان والطبيعة. ولهذا السبب، يوجز سيرته، بالعيش في انسجام مع الطبيعة والأشياء الموجودة فيها، والاحساس بالتعاطف معها:

" بعد زيارة الفجر لي، لا ينتهي نهاري

وبعد الحوار مع النسيم والطير، وصمت الحقول،

لا يذوي الجمال في الكيان! (1)

وقبل الخروج من رواق المعرفة، من بيته الداخلي، من يقينه، تسقط دمعة من واقع يتألم "في رِواقِ العالم"، على هذا التاريخ، وهذا الشرق، ولبنان، وهذا العالم، تعمّه فوضى الحروب والقتل باسم الدين، ويهيمن عليه الجهل وظلم الأنظمة، والاستغلال، والأنانية والطمع...

" أبكي لأنّي لا أفهم

أبكي لأني لا أصل،

لأنّي أهجر من جسد إلى جسد، ولا أحيا!" (2)

وهذا الشّر أقحم الشاعر في دائرة الشّك، فإذا كانت الأشياء متعلقة كلّها بالله، ومنظمة تنظيمًا دقيقًا، فمن أين، إذًا، أتى هذا الشّر الّذي نراه في العالم؟ واستخلص أنّ الإنسان مخيّرٌ وحرٌّ، بين الخير والشّر، ويبقى القانون الإلهي الذي يخضع له الإنسان، في سبيل خيره وخير أخيه الإنسان، هو الحقيقة الوحيدة. لذلك يسمو الشّاعر إلى الأعالي، بحنين إلى الطبيعة حيث الله، لايجاد الفرح الّذي فقدته حياته، في الواقع المحيط به، وليتمكّن من العيش بتوافق وانسجام وحكمة مع هذا العالم، فينشد نشيده الأخير، علّ الرّاعي الصّالح، يسمعه، وأنينه، وشوقه، وضعفه، وتيهه، ويعيد إليه فرخ نسر ينتظر العيد:

" يا عيدُ عدْ

إنّا هنا في غُربة الزّمن الصّديد

عُدْ من جديد!" (3)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1. ربيعة أَبي فاضل، وَحْدَها الحِكْمة، دار نلسن، لبنان، 2017، ص 105.

2. المصدر نفسه، ص 106.

3. المصدر نفسه، ص 131.

صوتٌ صارخٌ في البريّة

في هذا النّمط من الكتابة، أُسقطتْ الحدود بين الأجناس والمذاهب الأدبية، وبين العهد القديم والعهد الجديد، في "وحدها الحكمة"، وانخرط ربيعة أبي فاضل يشيّد الأعمدة الأربعة، كما الجهات الأربع، والرياح الأربع، يبني أروقة مدينته، ليست المدينة الفاضلة، إنّما مدينة المحبّة! حيث عقد العزم على اختراق حدود الزّمان والمكان، والانفتاح على الآخر، والبحث في هذا العالم، عن خطاب جمالي جديد، كصوت صارخ في البريّة، يرتدي الكلمة سبيلا، فوق أغصان روحه، المنبثقة من تبر المحبّة، وتظلّلها الطّبيعة، ونظره تجاه قاطن الخيمة الزرقاء أبدا.

وهذا القلم، سفرٌ لا يهدأ، ينثر أمامنا ذاكرته، ويعيد لملمتها ليجمعها في كتاب، ويهديه إلى التّاريخ والإنسانية في هذا العالم، عن قصة إنسان لدغت يديه العقارب الخفية، فكان بكاؤه هو الوجه الآخر للعذوبة التي أهداها إلينا وإلى نفسه، العذوبة التي هي أقرب إلى روح الاكتشاف والطفولة والاندهاش والتّجدّد والولادة الجديدة. فنمت في باطن روحه الصّلوات، من خوف وألم، ليحوّل الألم إلى رؤية، والخوف إلى معرفة، يكتب روح الشيء ويصير روح المكان لا المكان، روح العالم، ليصدم ذائقة القارىء، ويغذي عقله بالدّهشة والمعرفة والأسئلة، يعطيه معنى لألمه وجماله، ويعيد تشكيل الحياة وفق الأعدل والأشمل والأجمل، ويسعى لتحصين روحه من ابتذال التراب ومنحه سعادة اللقاء مع الحبّ الّذي هو الله، من خلال أروقة الحكمة في "وحدها الحكمة".

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم