الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

الاستقلال المغيّب بعد 70 سنة

موريس نهرا
A+ A-

يحتل عيد الاستقلال في جميع البلدان، المكانة الاهم بين جميع الاعياد. فهو رمز تحرر الوطن من السيطرة الخارجية التي تكبله وتكبل أبناءه، للانطلاق الى الحرية واطلاق طاقات الشعب والبلاد على التطور والتقدم المفتوح. لذلك فهو ليس مجرد ذكرى لحدث جرى في تاريخ معين. ولم يكن الاستقلال هدية او منحة من أحد، بل تحقق نتيجة مسار نضالي طويل، وتضحيات وجهود بذلها الشعب بعماله وشبابه ونسائه ووطنييه، الذين ملأوا الساحات والشوارع في تشرين الثاني عام 1943 تتويجا للمسار النضالي وفي مواجهة آلة القمع والاضطهاد التي استخدمتها سلطة الانتداب الفرنسي.


وبعد 70 سنة على الاستقلال يأتي العيد في ظل أزمات تطال مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، كما تطال الوطن وأمنه. لكن هذه المشكلات والازمات التي تتفاقم سنة بعد أخرى، ليست وليدة الفترة الراهنة او التي سبقتها فحسب بل ترتبط اصلا بالصيغة الطائفية التي أقيم النظام السياسي سلطته على أساسها، منذ ولادة الاستقلال. فهذه الصيغة التي جرى اعتمادها في توزع الرئاسات ومواقع السلطة، وفقا لميثاق وطني غير مكتوب، كان لها طابع ظرفي مرتبط بتحقيق توافق وطني لاكثرية لبنانية كبيرة بهدف نيل الاستقلال. لكن هذا الظرفي والموقت اصبح هو الدائم، خلافا لما جاء في بيان رياض الصلح رئيس أول حكومة استقلالية، من انه سيكون يوما مجيدا وقريبا، يوم الانتهاء من الصيغة الطائفية. ويكمن سبب الاستمرار بالصيغة الظرفية نفسها والبناء عليها، في ان الطبقة التي تعاقبت اطرافها على السلطة، وجدت بالطائفية وباستمرار نظام المحاصصة القائم، مصلحة لزعامتها ووسيلة لتجديد مواقعهم في السلطة والدولة، كما وجد تحالفهم مع كبار أرباب المال والثروات والاحتكار، أي الفئة العليا من البورجوازية اللبنانية، مصلحة لهم ايضا في استمرار هذا النظام واسنخدام طائفيته ومذهبيته في تشويه الوعي الشعبي، وتحويل التناقض الطبيعي بين مصالح الطبقات الشعبية، والقلة الضئيلة المستغلة (بكسر الغين)، الى تناقض بين جمهور كل طائفة وأخرى. كما تشكل الطائفية غطاء للتمادي الجاري في الفساد والغش وكل أشكال استغلال الشعب وافقاره، دون محاسبة. والأسوأ في جعل العامل الظرفي الطائفي اساسا دائما لبناء الدولة والسلطة، هو تحول الانقسامات والتناقضات الطائفية بين الاطراف المتصارعة على السلطة، الى حالة مفتوحة على التدخلات الخارجية، والى نمط من المراهنة على الخارج، وبالتالي الارتهان له، مما أفقد الاستقلال الكثير من ملامحه، وقلص دور الدولة، وأدى الى جعل لبنان مستباحا للقوى الخارجية وأجهزتها وتياراتها، فاقدا الكثير من استقلالية قراره، وأضعف وحدته الداخلية التي هي الاساس في نيل الاستقلال وحمايته.
ولا بد من التأكيد ان الطبقة السلطوية وزعاماتها المتعاقبة والمستمرة، هي المسؤول الاساسي عن ضياع معاني الاستقلال، وابقاء كيان لبنان والسلم الاهلي مهددين. فمن أجل مصالحهم الشخصية والفئوية أبقوا الوطن مغيبا.
استلموا لبنان كيانا ومنعوا تحويله وطنا، اعتمدوا نمطاً تحاصصيا وتقاسموا السلطة وحالوا دون بناء الدولة الحقيقية المتماسكة... ادّعوا الحرص على الشعب وتمثيل مصالحه، واذا بهم يمثلون عليه. يمددون لأنفسهم ويفصلون قوانين انتخابية على مقاسهم... جعلوا اللبنانيين رعايا طوائف ومذاهب، وأعاقوا تحويلهم مواطنين.
وبدلا من ان ينعم الشعب الذي قدم التضحيات الاساسية من أجل الاستقلال، بثمار هذا الاستقلال، بتوفير الضمانات الصحية والتعليمية والسكنية وتأمين فرص العمل، وتحسين مستوى معيشته، حولوا الاستقلال استغلالا للشعب في مصلحة قلة ضئيلة لمضاعفة ثرواتها وافقار معظم الناس.
ان الاستقلال الذي لا يولد تامّا بالاساس، يحتاج اليوم الى اعادة الروح اليه، الى امتلائه بمضامين تبرز معانيه، وتشعر أبناءه بالعزة والكرامة الوطنية والانسانية. وهذا الشعور لا يكفيه التغني بالاستقلال، بل يستدعي عملا نضاليا جاداً لاحداث تغييرات عميقة تطال المرتكزات الطائفية للنظام.. فالتسويات الترقيعية الفوقية ليست علاجا ناجعا، وبناء دولة المواطنية التي تساوي بين اللبنانيين في الحقوق، وبناء الوطن الحصين بديلا من الساحة المستباحة، لا ينتظر تحقيقها تلقائيا ومن الطبقة السلطوية القائمة. ومثلما كان الشعب هو الاساس في صنع الاستقلال، فان دوره النضالي هو الاساس في صنع التغيير لبناء دولة الاستقلال.


كاتب سياسي شيوعي

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم